بدعوته اللطيفة إلى مجلسه: من البين أن الموجود على ضربين: موجود بالحس وموجود بالعقل. ولكل واحد من هذين الموجودين وجود بحسب ما هو به موجود، إما حسي، وإما عقلي. فعلى هذا ألنفس لها عدم في أحد الموجودين، وهو الحسي. ولها وجود في القسم الآخر، وهو العقلي. وقد كان الدليل على هذه الحال حاضر في هذا العالم، وذلك أنها كانت تنقله وتستنبطه وتعقل وتستبطئ وتنظم المقدمات، وتدل على ينابيع المعلومات، وتعلو إلى غاية الغايات. وليس للحس معها شركة، ولا له عندها معونة ومادة، فكيف لا تكون النفس التي هي عنوان كتابتها، وصريح كنايتها، وفاضل عنايتها، بعد مفارقة القشور والحواجز، والحيطان والحواجب، والغواشي والملابس، عن الحس أغنى، وبجوهرها أعلى، وبخاصتها أسنى؟ وهذه الاشياء عنها أبعد، وعن شرفها أهبط؟ وهل هذه الشهادة إلا عادلة، وهذه البينة إلا مقبولة، وهذا الحكم إلا مرضي، وهذا المثال إلا بين؟ ثم قال: ولطائف الحكمة لا يصل إليها الحس الجافي، والغليظ الفدم، والجلف العبام، والهلباجة العلفوف، وإنما هي تعرض لمن صح ذهنه، واتسع فكره، ودق بحثه، ورق تصفحه، واستقامت عادته، واستنار عقله، وعلت همته، وخمد شره، وغلب خيره، وأصل رأيه، وجاد تميزه، وعذب بيانه، وقرب إتقانه. قيل له: هذا عزيز جداً الآن؟! واتباع في هذا الفن وتمطي، وحاز كل غاية وتخطى. ومحصولي من ذلك ما سمعته الآن، فسر نفعنا الله به، وحلانا بأزينه، وأسعدنا بقبوله.