والارتداع. وهذا منه في ذوي الإحساس ظاهر معروف، وقائم موجود وليس كذلك الأمر في امعاد إذا فرض من جهة العقل، لأن العقل، لا يعتريه الملل، ولا تصيبه الكلفة، ولا يمسه اللغوب، ولا يناله الصمت، ولا يتحيفه الضجر. وهكذا حكمه في الشاهد الحاضر، والعيان القاهر، لولا عقل النصيبي ونظرائه! ألم يعلم أنه كان في هذه الدار على شوبها وفسادها وكدرها وثبورها كان العقل لا يكل معقوله أبداً، ولا ينقضي منه أبد البتة، ولا يطلب الراحة عنه بوجه، بل كان العقل إذا وجد معقوله وتوحد به، صار هذا قد أحيي، لا يوجد بينهما بين بحال، فكيف إذا كان المنقلب إلى عالمه الصرف الذي لا حيلولة ولا تعير له، وهو الوجود الوجود المحض، والأمر الصرف، والشيء الذي كلما عرفته بالصفة بعد الصفة، كان عنها أعلى، وكلما أوضحته بالعبارة بعد العبارة كان عنها أخفى.
وأطال هذا الفصل وعلقت من جميعه قدر ما قررته في هذا المكان، ولعلك تجد به ما أكون منصوراً فيه عندك، غير ملوم على إساءتك، وفي الجملة القول في حصول النفس بعد خلع الحد الذي خص به الإنسان صعب، ولولا أمثلة توضح إيضاحاً يثق به الإنسان مرة بعد مرة لكان باب معرفة حالها قد أرتج، والطريق قد سد، وقد بين هذا كله بالبرهان المنطقي في مواضعه المعروفة، إن كانت الثقة تقع كذلك، فأما هذا المقدار فإنه جرى في عرض مقابسة هؤلاء المشايخ بينهم بالحديث والاسترسال، فليكن العذر فيه مقبولاً عندك بحسب الحال التي قلبت ظهرها لبطنها لك، مرة بعد أخرى، فهذا الولوع من بالاعتذار إحساس بالتقصير، أما من جهتي فلسوء الرواية، وأما من جهتك فلقلة الدراية، فأنا أسأل الله رب العالمين أن يفرغني لبلوغ غاية هذا الأمر بقية عمري، فإنها فيما إخال قليلة، وما يرجو المرء بعد الالتفات إلى خمسين حجة قد أضاع أكثرها، وقصر في باقيها؟ إذ أراد الله نجاة عبد تولاه بلطف من عنده.