للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يفاجئهم بالحرب على حين غرة، إذ لم تمض فترة وجيزة حتى وجه إليهم حملة أخرى تأديبية، بقيادة قائد آخر من قواده هو "ديمتريوس". فلما أدرك الأنباط الخطر المحدق بمملكتهم هرَّبوا كل ما هو ثمين من أمتعتهم وحليهم وتجارتهم إلى خارج المدينة، وتحصنوا في معاقلهم، وأخذوا يفاوضون القائد السلوقي، وعرضوا عليه مبلغًا من المال لقاء الانسحاب، وإلا فإنهم مصممون على الصمود حتى الفناء التام. وخاطبوه بقولهم: "وإذا أبيتم إلا إطالة الحصار فلا تنالون غير التعب والفشل؛ لأنكم لن تجدوا سبيلًا إلينا, ونحن في هذا الحصن المنيع. وإذا قدر لكم الظفر فلن تنالوه إلا بعد أن نموت جميعًا، ولا يبقى لكم غير هذه الصخور الصماء، وأنتم لا تستطيعون سكناها"١.

وإن أدرك القائد السلوقي استحالة احتلال البتراء المنيعة، ووجد أن لا مطمع له في هذه المملكة، آثر الانسحاب لقاء مبلغ من المال اتفق عليه.

وأما البطالمة فلما تراءت لهم أهمية موقع الأنباط التجاري والإستراتيجي, حاولوا أن يبسطوا سيطرتهم على بلادهم، غير أنهم أدركوا استحالة ذلك لمناعة البتراء، فقرروا أن يسلكوا معهم سياسة أخرى تقضي بتركهم مستقلين، والاكتفاء بجعلهم تحت نفوذهم، فشرعوا في الاستيلاء على المدن الفينيقية والفلسطينية التي لها صلات تجارية معهم والتي تمر فيها قوافلهم، وأقاموا حولهم المستعمرات، فسيطروا بذلك على منافذ تجارتهم، ثم سيطروا وأقاموا فيها من الموانئ والمحطات ما هو كفيل بالقضاء على التجارة التي تمر بالبتراء, وانتزاع مقاليدها من أيديهم للحلول مكانهم في النشاط التجاري. غير أن الأنباط لم يستسلموا لهذا الحصار والتنافس الاقتصادي، بل أخذوا في مهاجمة سفن البطالمة التي تمر بالبحر الأحمر لعرقلة تجارتهم، الأمر الذي دفع البطالمة إلى بناء أسطول حربي، يعهد إليه بحماية الأسطول التجاري٢.

وقد استمر الحال على ذلك حتى القرن الثاني قبل الميلاد، عندما استرجع السلوقيون البلاد السورية التي احتلها البطالمة، واتجهوا إلى الأنباط يحسنون علاقتهم بهم لاستمالتهم, فعاد النشاط إلى التجارة النبطية، ولا سيما مع بلاد الشام ومنها صور بوجه خاص.


١ راجع جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام, ص٧٢.
٢ د. جواد علي: ٢/ ١٩.

<<  <   >  >>