للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما النعمان فقد ندم على ما فرط منه، وراح يسترضي ابنًا لعدي يسمى زيدًا ويكرمه، ثم أرسل إلى كسرى بإطرائه وبتعيينه كاتبًا لديه بدلًا من أبيه، بينما اتخذ زيد هذا التعيين وسيلة للانتقام من النعمان. وقد واتته الفرصة السانحة عندما لمس من كسرى رغبة في الزواج، فأدخل في نفسه أن يطلب من النعمان إحدى بنات أسرته، وهو يعلم أن العرب تأنف من تزويج بناتها في الأعاجم، فكلفه كسرى أن يذهب إلى النعمان بهذه المهمة، وأرفق معه مندوبًا يعرف العربية ليسمع جواب النعمان١.

ولما فوجئ النعمان بالطلب اعتذر عن وجود ما يشبه النساء اللواتي حدد كسرى أوصافهن، وأجاب زيدًا والرسول بقوله: "أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟! "٢ ولما سأل المندوب الفارسي زيدًا عن معنى "المها والعين" -ومعناهما في العربية نوع من الظباء والنساء سوداوات العينين واسعتهما- أجابه بالفارسية "كاويان" أي: البقر. وكان من الطبيعي أن يغضب كسرى للرد المنقول إليه عن النعمان "أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه؟! " فيقول: رب عبد قد صار في الطغيان أكثر من هذا، وسكت أشهرًا ثم استدعى النعمان لزيارة العاصمة الفارسية، ولما قدم إليه أمر بقتله.

هذه الأحداث تجعلها معظم الروايات العربية سببًا لقتل النعمان. والروايات العربية على العموم تقتصر على الأسباب العرضية المباشرة للأحداث، ولا تلتفت كثيرًا إلى الأسباب الأساسية، الأمر الذي يحدو بالمؤرخين المحدثين إلى مزيد من التقصي، لا سيما عند المؤرخين القدامى الذين اهتموا بتاريخ العرب وتاريخ الفرس على السواء، كأبي حنيفة الدَّينَوَرِي الذي عني في الوقت نفسه بالتمحيص والتحليل، وقد أورد الدينوري عن هذه الأسباب نصا منقولا عن كسرى أبرويز بن هُرْمز إلى ابنه شيرويه الذي أقصاه عن العرش وسجنه، واعتلى مكانه العرش الكسروي. فلما طلب زعماء حركته الانقلابية منه قتل والده استمهلهم، وكتب إلى أبيه كتابًا وجه إليه جملة من التهم منها قتله للنعمان وعدم حفظه له ولأسرته جميلهم وخدمتهم للدولة، فأجابه والده بكتاب يبرز فيه موقفه, جاء فيه بما يخص النعمان: " ... وأما ما زعمت من قتلي النعمان بن المنذر، وإزالتي الملك عن


١ المسعودي: مروج الذهب، ٢/ ٧٦-٧٧؛ ابن الأثير: الكامل ٢/ ٢٨٦-٢٨٧.
٢ تاريخ اليعقوبي: ١/ ١٧٥.

<<  <   >  >>