للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القصر بالتسامح مع أتباع الطبيعة الواحدة والصفح عنهم، ومن المحتمل أن يكون قد عقد مجمعًا هناك لتعزيز مذهبه، واتصل بالبطاركة للتوفيق بين رجال الكنيستين، لكن مساعيه خابت بالرغم من إبداء البطاركة رغبتهم وعدم ممانعتهم في ذلك.

لكن الوفاق لم يلبث أن انقلب إلى جفاء مرة ثانية، عندما تمادى المنذر في مساعيه الهادفة إلى إعلاء شأن مذهبه، الأمر الذي أوغر عليه صدر الكهنوت الرسمي للدولة، فحرض رجاله الإمبراطور عليه، سيما قد رافق ذلك إسهامه مع حاكم سورية البيزنطي في هجوم على الفرس، حيث أحجم الحاكم عن متابعة السير عند رؤيته أن الجسر القائم على نهر الفرات, والذي يؤدي إلى الأراضي الفارسية مهدم؛ فعاد أدراجه إلى الشام, وكتب إلى القسطنطينية كتابًا يدفع فيه عن نفسه مسئولية الإخفاق والخيبة، ويتهم المنذر بالخيانة، وبأن له صلات سرية مع الفرس، وأنه قد أخبرهم بقيام الحملة, وأوعز إليهم بهدم الجسر ليكتب لها الإخفاق. وزاد الأمر سوءًا أن المنذر بعد أن عاد إلى الشام جهز جيشًا سار به إلى الحيرة، فغزاها وألحق بها أضرارا جسيمة، ولم يغادرها إلا وهي شعلة من نار، خلافا لمقتضيات الهدنة بين الإمبراطوريتين. فاتخذ الروم من هذه الأعمال جميعها دليلًا على تحديه لهم. فأصدر الإمبراطور أمرا سريا إلى عامله الجديد في الشام -وكان صديقا للمنذر- بأن يحتال للقبض عليه، فدعاه لحضور حفلة تدشين كنيسة جديدة بنيت في حوران، وما أن أطل عليها حتى ألقي القبض عليه، وأرسله إلى العاصمة مع زوجته وثلاثة من أولاده، فوضعوا جميعًا في الأسر، ثم جرى نفيهم إلى صقلية حيث قضى المنذر نحبه بعد حين. قطع البيزنطيون بعد ذلك ونهائيا الإعانة المالية وسواها من الإعانات التي كانوا يدفعونها للغساسنة١.

فما كان من أولاد المنذر، وعلى رأسهم ابنه الأكبر النعمان, إلا أن غادروا ديارهم وأعلنوا الثورة، فاتخذوا البادية منطلقا لسلسلة من الغارات، شنوها على أراضي البيزنطيين في الشام ينهبون ويدمرون. وقد استولوا على بلدة حوارين وقتلوا بعض أهلها، وأسروا آخرين منهم، وعادوا بكثير من الغنائم. ولم يسع القيصر إلا الإيعاز لحاكمه على الشام بتجهيز حملة إليهم. فلما رأى الحاكم صعوبة مهاجمتهم في البادية، عمد إلى المكر


١ د. جواد علي: ٤/ ١٣٧- ١٣٨.

<<  <   >  >>