وتصف ما سواها باللغات الأعجمية. وليس مرد فقدان النزعة القومية عند العرب آنذاك إلا لضعف الوعي السياسي في نفوسهم، وانحصاره في أفق ضيق محدود، لا تتجاوز حدوده حدود القبيلة.
ولم يكن لدى البدوي مفهوم الوطن الشامل، الذي يضم هذه الوحدات المتجانسة في تركيبها الاجتماعي، المتنافرة في علاقاتها السياسية. كل ما يفهمه أن الأرض التي تنزل فيها هي وطنه، فإذا تركها وانتقل إلى غيرها، أصبحت وطنًا لقبيلة جديدة تحل محل قبيلته فيها، ويصبح له وطن جديد في أرض جديدة تحتلها قبيلته، وكل ما هو خارج هذه الأرض هو بالنسبة إليه في حكم الأرض الأجنبية، وكل من ينتمي لغير قبيلته هو في حكم الأجنبي الغريب عنه، فوطن البدوي وطن متنقل يتبدل باستمرار.
على أن ضيق المعاش في أرض قاحلة كشبه جزيرة العرب، كان يدفع القبائل إلى البحث باستمرار عن الماء والكلأ، وإلى تنافس القبائل عليهما، فتقع الحروب والغارات بينها، وتضطرب شبه الجزيرة وتمور بمنازعات دامية لا نهاية لها، كل منها تقاتل وتحارب لتنتزع من غيرها ما تحت يدها من مراعٍ بقوة السيف، فيما يسمى "شريعة الغاب"١.
وقد فرضت ظروف الحرب الدائمة بين القبائل، وبحثها عن موارد الرزق الشحيحة، أن يكون للقبيلة زعيم ترتضيه لقيادتها وإدارة شئونها الحربية والاقتصادية، رجل يستطيع بسجاياه وكفاءته أن ينتزع الاعتراف بتقدمه وسيادته عن رضًا وطيب نفس، والحرب في الحقيقة خير مناسبة لظهور كفاءة الرجال وبروز الزعامة؛ لحاجة القوم إلى من يستطيع أن يسدد خطاهم نحو النصر.
كان لكل قبيلة رئيس يسمى شيخ القبيلة, وكي يتولى رئاستها لا بد من أن تتوفر فيه بعض الصفات المثلى الضرورية للمجتمعات القبلية، والتي يستطيع بها أن يحقق مصالح القبيلة وأن يسودها، كالشجاعة والغنى والكرم والحلم والعدل وكثرة الأنصار وسداد الرأي وكمال التجربة مع كبر السن على الغالب.