للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من هذه الأسواق ما هو دائم، ومنها ما هو موسمي موقت، يعقد في شهر معين من السنة، ومنها ما هو عام يرتاده العرب من شتى أنحاء شبه الجزيرة، أو ما هو محلي يتم فيه التبادل بين التجار والبدو المجاورين. ومع أن هذه الأسواق أقيمت لغاية أساسية هي التجارة وتبادل السلع المختلفة من طعام وشراب وثياب وسلاح وخيل وإبل، غير أنها لم تكن تقتصر على هذا الأمر، بل كان الشعراء والخطباء والمبشرون الدينيون من مسيحيين وغيرهم, يقصدونها للمباراة في الشعر والخطابة وبث الدعوات الدينية. ومما يروى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى هذه الأسواق، ويعرض دينه على القبائل العربية التي ترتادها لهدايتهم. وربما جاء أحدهم ليبحث عن غريم، أو عن عبد هرب من داره، أو عن دابة سرقت له١، أو ليسعى في فداء أسير من ذويه.

وفي هذه الأسواق، لا سيما في سوق عكاظ، كان العقلاء ينتهزون فرصة التقاء الزعماء من شتى القبائل؛ ليوفقوا بين المتخاصمين منهم والمتنازعين، وليصلحوا بين قبيلة وأخرى تقتتلان، وتحل المشاكل الموجبة للنزاع من دفع ديات، أو وفاء بالتزامات، أو دفع ديون. كما تعقد فيها عهود الجوار والمحالفات، وتعلن فيها القرارات التي تتخذها القبائل لخلع السفهاء من أفرادها.

كانت الأسواق منتشرة في جميع أنحاء شبه جزيرة العرب, وموزعة على أيام السنة كلها بوجه التقريب. يقول القلقشندي٢: "كان للعرب في الجاهلية أسواق يقيمونها في شهور السنة، وينتقلون من بعضها إلى بعض، ويحضرها سائر قبائل العرب من بَعُدَ منهم ومن قَرُبَ، فكانوا ينزلون دومة الجندل أول يوم من ربيع الأول فيقيمون أسواقها بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، فيعشرهم رؤساء آل بدر في دومة الجندل، وربما غلب على السوق بنو كلب فيعشرهم بعض رؤساء كلب، فتقوم سوقهم إلى آخر الشهر. ثم ينتقلون إلى سوق هجر، من البحرين، في شهر ربيع الآخر فتقوم أسواقهم بها. وكان يعشرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم، ثم يرتحلون نحو عمان بالبحرين، فتقوم سوقهم بها، ثم يرتحلون فينزلون عدن من اليمن أيضًا، فيشترون منه اللطائم وأنواع


١ الدكتور عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص٨٦.
٢ القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ص٤٦٤.

<<  <   >  >>