للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دمًا، حتى تنقضي تمامًا، وحتى يغادر الناس المكان الحرام، أي الكعبة وما يجاورها من أماكن محدودة المعالم، والحرب محرمة فيها طوال أيام السنة، فإذا لقي المرء قاتل أبيه ما وسعه التعرض له بسوء فيها. ولذا سمى العرب الحروب التي جرت بين كنانة وقيس عيلان في عكاظ باسم "حروب الفجار" لأنهم اقتتلوا في الأشهر الحرم، وامتدت اشتباكاتهم حتى الأماكن المقدسة.

والسبب الذي حمل العرب على اتباع هذه التقاليد، هو حرصهم على توفير جو من السلام والطمأنينة خلال مواسمهم الدينية التي يشترك الناس والقبائل من أرجاء شبه الجزيرة العربية كافة فيها. وقد حرصوا على جعل أكبر أسواقهم تقام في الأشهر الحرم؛ لتوفير جو السلام والهدوء للتجارة أيضا. فكانت سوق حُباشة وسوق صحار في رجب، وسوق حضرموت في ذي القعدة، وأسواق عكاظ ومجنة وذي مجاز في ذي الحجة١، بحيث لا ينتهي بيعهم وشراؤهم من سوق عكاظ حتى ينصرفوا إلى السوق التي تعقد بعدها، ويستمر تنقلهم على هذا المنوال طوال أيام السنة تقريبًا، كما تقدم معنا في أول هذا الفصل.

كما أن من الأسواق ما كانت تقام في غير الأشهر الحرم، الأمر الذي أوجب أن يكون قدوم الناس إليها بعروضهم التجارية بخفارة، ورجوعهم منها بخفارة؛ خوفًا على هذه العروض من أن تكون نهبًا مقسمًا للصوص وقطاع الطرق. فتجارة العرب كانت أروج ما يكون حيث يستتب الأمن، ويعم الهدوء، وتعم الثقة. وقد تميزت مكة وما يجاورها من مناطق بهذه الميزة لمجاورتها الكعبة، فغنيت وازدهرت من التجارة، وفرضت نفوذها الأدبي على القبائل العربية كافة.

بيد أن رعاية التقاليد الآنفة الذكر ليست بالشيء المطرد على إطلاقه، بل قد يحدث أن بعض القبائل لا تعرف لهذه الحرمات حقًّا، فتسفك الدم ولو في الشهر الحرام وفي البلد الحرام٢, أو أن طالب ثأر لا يملك أعصابه حينما يشاهد قاتل أخيه أو أبيه فيقتله، الأمر الذي حمل القوم على التفكير في توفير الحماية لهذه الأسواق. وقد أُطلق على من يقومون


١ الأفغاني: أسواق العرب، ص٧٠.
٢ الأفغاني: أسواق العرب، ص٧٣.

<<  <   >  >>