إحداهن: أن المقصود من الكلام إنما هو إفادة المعانى، فإنه إنما وضع للإفهام وليس الغرض من وضع الألفاظ المفردة إفادة معانيها، بل ولا يجوز؛ لأنها تكون حينئذ معلومة فيلزم الدور. هذا ما ذكره فى المحصول، وخالفه
غيره محتجا بأنه لا يلزم من حصول أمر تصوره، وفيه نظر؛ لأن الحصول دون التصور ليس كافيا فى توجه القصد إلى الوضع للمعنى، ولا يرد الدور الذى قاله الإمام فى المركبات؛ لأن الوضع لها إن كانت موضوعة لا يتوقف على العلم بها.
الثانية: مدلول الخبر الحكم بالنسبة لا ثبوتها. قال الإمام فخر الدين: وعلل ذلك بقوله:
وإلا لم يكن الكذب خبرا، واعترض عليه بأنه يوهم أن يكون الكذب متحققا، ولا نصفه بالخبرية، والواقع على هذا التقدير انتفاء الكذب، وتوهم جماعة أن هذا انقلب على الإمام وغيره فى التحصيل فقال: وإن لم يكن الخبر كذبا، وهى أيضا عبارة فاسدة، لما توهم من أن كل خبر كذب، والصواب فى العبارة أن تقول: وإلا لم يكن شئ من الخبر كذبا. هذا ما ذكره الإمام؛ وفيما قاله نظر؛ أما الدليل الذى ذكره فقد قال: لا يلزم لأن اللفظ دليل على وجود النسبة، وقد لا تكون موجودة؛ لأن الخبر دليل بمعنى المعرف، وقد تتأخر المعرفة عن المعرف لأمر ما ثم ما قاله قد يعكس، فيقال: لو كان مدلول النسبة الحكم لم يكن خبر كذبا؛ لأن كل من قال:(قام زيد) فقد حكم بقيامه فيكون خبره مطابقا، سواء كان فى الخارج أم لا، ولا سيما والإمام قائل: إن الألفاظ وضعت بإزاء المعانى الذهنية، ثم نقول: لو كان المدلول الحكم بالنسبة لكان الخبر إنشاء، ولما لم يكن له خارج يطابقه، والمسألة متجاذبة وللنظر فيها مجال.
الثالثة: مورد الصدق أو الكذب المحكوم به على ما ذكره أهل هذا العلم هو النسبة التى تضمنها الخبر، فإذا قلت:(زيد بن عمرو قائم) فالصدق والكذب راجعان إلى القيام، لا إلى بنوة زيد. وإليه أشار فى المفتاح.
قلت: ويرد عليهم ما جاء فى البخارى مرفوعا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم:" يقال للنصارى يوم القيامة ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد"(١). وسنتكلم على هذه الآية فى باب الحال، آخر باب الفصل