فإن العلم من مقولة الانفعال؛ لأنه انفعال النفس والتتبع من مقولة الفعل فهما متغايران ضرورة. إنما التتبع من غير واضع العلم ثمرة العلم. وأجيب عنه: بأنه أراد بالتتبع العلم. فإطلاقه عليه من إطلاق المسبب على السبب، ويشهد له قول السكاكى فى آخر علم البيان: وإذ قد تحققت أن المعانى والبيان معرفة خواص تراكيب الكلام؛ لكن ليس هذا جيدا؛ لأنه استعمال مجاز فى الحد لم تقم عليه قرينة واضحة، ولذلك أخذ ابن مالك فى روض الأذهان هذا الحد، وأبدل لفظ المعرفة بالتتبع. قال بعضهم: المراد بالتتبع انتقال الذهن فيكون حدا للعلم، وفيه نظر؛ فإن الانتقال أيضا ليس علما، وسؤال الدور لا يرد فلو ورد لورد مثله على المصنف فى حد الفصاحة والبلاغة؛ بل الجواب عن هذا الحد هو الجواب عن المصنف كما سبق، وهو أن بلاغة الكلام، غير بلاغة المتكلم.
فلا يتوقف العلم بالبليغ المتكلم، على العلم ببلاغة الكلام، والتحديد إنما هو واقع فى بلاغة الكلام فلا يمتنع أخذ البليغ فى الحد. ثم هذا السؤال إنما يرد على هذا الحد، وإن كان حد الفصاحة لا البلاغة؛ لأن الفصاحة جزء من البلاغة فلا يذكر فى حدها كلمة مشتقة من البلاغة التى هى مركبة من الفصاحة وغيرها، وإنما يجئ الإيراد على السكاكى والمصنف من جهة اشتمال الحد على لفظ مشترك، أو مجاز، وذلك نقص فى الحدود كما تقرر فى علم المنطق إلا أن يجاب عن هذا الحد وعن الذى قبله: أن هذا ليس بحد حقيقى، أو يقال: يجوز استعمال المشترك والمجاز فى الحد، إذا دل على معناهما دليل كما ذكره الغزالى فى المستصفى، وغيره، وأورد عليه أيضا: أن قوله وغيره مبهم فلا يجوز استعماله فى الحد، وجوابه: أن مبهم اللفظ علم بقرينة ذكر الاستحسان أن المراد الاستهجان، ثم عليه أن غيره محمول على الخواص المستهجنة، وهى لا تلحق بتراكيب البلغاء والحد دال على أنها تلحقها، وأجيب عنه بأن الاستهجان قد يلحق تراكيب البلغاء، وأنه أمر نفسى فقد يكون التركيب (١) مستحسنا مستهجنا باعتبارين، وبأن الاستهجان، وإن لم يلحق البليغ فبواسطة الاستحسان يعرف مقابله، وهو الاستهجان. لا يقال: إن لفظ البلغاء لم يصرح به فلا دور؛ لأنه مطوى كالمنطوق به. وقوله:(يطابق) يصح أن يقرأ بكسر الباء والضمير
(١) فى الأصل:" التراكيب" بصيغة الجمع، والصواب ما أثبتناه، وهو ظاهر.