للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلماذا كاد قلب هذا الصحابي أن يطير عند سماع الآية؟ أليس لما فيها من بليغ الحجة على الخلق مما وعاه عقله واستشفته روحه؟ وكم من الناس يمرون على هذه الآية وغيرها فلا تحرك قلوبهم ولا تهز وجدانهم ولا تثير من المعاني ما أثارته في قلب هذا الصحابي الجليل.

لقد تأمل المفسرون في هذه الآية تأملات شتى فـ (أم) هنا ليست بمعنى (بل) وإنما هي للاستفهام، ولم يكن المشركون ينكرون أن الله خلقهم وخلق السماوات والأرض وأنهم ليسوا بخالقين، ولكنهم يغفلون ما يترتب على ذلك من توحيد الألوهية وهو مقتضى الاعتراف بالخالق ونعمه.

وقد لخص ابن تيمية أقوال المفسرين في الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} فقال: "من غير رب خلقهم، وقيل من غير مادة، وقيل من غير عاقبة وجزاء. والأول مراد قطعاً، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابد له من خالق" (١).

لقد جنح بعض فلاسفة القرن العشرين إلى القول بأن المادة هي الأصل الأول وأن "الإنسان يقوم وحده" لم يخلقه رب ولم يحكمه إله، وهذا عنوان كتاب جوليان هكسلي الذي أنكر فيه وجود الله زاعماً أنه يعتمد على أدلة العلم. وقد نقض رأيه عالم آخر هو كريسي موريسون في مؤلفه المشهور (الإنسان لا يقوم وحده) الذي بين فيه بأدلة العلم الحديث نفسه أن الله خالق كل شيء.

وهذا يدل على أن الصراع بين الإيمان والإلحاد قديم وحديث وأن مقوله فيورباخ (لا إله والحياة مادة) ليست جديدة، وإنما هي ترديد لأقوال الدهريين القدامى والطبيعيين المحدثين، على أن هذه الآراء تصدعت منذ منتصف هذا القرن عندما تم الكشف عن حقيقة المادة، إذا تفجرت ذراتها، ودلت على أنها ليست "مادة" بالمعنى القديم بل هي طاقة سالبة وموجبة وهي في حالة حركة وليست ساكنة. وبذلك أطل العلم الحديث على تصور جديد للمادة نفسها هدم به كل التصورات القديمة للدهريين القدامى والطبيعيين الجدد.


(١) الفتاوى ١٣/ ١٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>