وقد استمر علماء المسلمين طيلة القرون يبذلون جهودا عظيمة في خدمة المصحف، بإضافة النقط والشكل إلى الرسم العثماني الذي كان خاليا منهما، ويرجع الفضل في ذلك إلى أبي الأسود الدؤلي الذي وضع النقاط فوق الحروف لتمييزها، وإلى نصر بن عاصم الليثي ويحي بن يعمر العدواني اللذين وضعا الحركات فوق الحروف لمنع اللحن فيها، ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي ليجعل الشكل على صورته الحالية.
ولم تقتصر جهود العلماء في خدمة المصحف على النقط والشكل وإنما عرفوا بمواضع الوقف والابتداء، ووضعوا العلوم المتنوعة لخدمته مثل التفسير وعلوم القرآن والتجويد ومعرفة القراءات وشرح غريب القرآن وكتب إعراب القرآن، فتكونت مكتبة نفيسة في العلوم القرآنية وما زال اللاحقون يضيفون فيها إلى جهود السابقين تحقيقا لإرادة الله في حفظه وبيانه.
وقد آثار حفظ القرآن بهذا الإتقان على مر الأزمان دهشة وإعجاب المنصفين من علماء الشرق والغرب فقال لوبلوا:"من ذا الذي لم يتمن لو أن أحدا من تلاميذ عيسى الذين عاصروه قام بتدوين تعاليمه بعد وفاته مباشرة".
إنَّ هذه الجهود التي سخرها الله تعالى لحفظ القرآن تحقيقا لوعده قد أفلحت في إيصال النص القرآن كاملا إلى الأجيال المتعاقبة حتى اليوم، في الوقت الذي وقع التحريف على سائر الكتب السماوية الأخرى والتي كتبت بعد أزمان طويلة من حياة أنبيائها.
لقد ظل القرآن الكريم يغذي عقول وأرواح المسلمين، ويدخل الطمأنينة والقدرة على مواجهة صعاب الحياة إلى نفوسهم، ويذكي فيهم الطموح إلى المعرفة والاندفاع لبناء الحضارة وتشييد المدنية، ويهيئ لهم أسباب ذلك كله، بما حواه تشريعه من قوانين الأخلاق، ومبادئ الاجتماع، وإقرار العدل، وتحقيق السلام في داخل النفس وفي إطار المجتمع، فضلا عن حفاظه على اللغة العربية التي توحَّد أمة الإسلام، وتسهم بآدابها في توحيد ثقافتهم ومقاييسهم