ففيها كانت قريش تتشاور في أمور السلم والحرب وفيها تجري عقود الزواج والمعاملات فهي دار مشورة ودار حكومة يديرها (الملأ) الذين يمثلون زعماء الأسر وأصحاب الرأي في مكة ويندر أن يقل عمر أحدهم عن سن الأربعين، ويتقيد الناس بأوامر الندوة عادة وعرفاً، فليس ثمة قانون مكتوب، وليس ثمة رئيس أو حاكم أو مالك في مكة، ولا يتم انتخاب أعضاء الندوة بالاقتراع بل يحددهم العرف، ويمارس رئيس كل عشيرة صلاحياته على عشيرته. وقد فرض قصي العشر على التجار القادمين إلى مكة من غير أهلها، فصار أحد مصادر الثروة في مكة. وصار أمر قصي في قريش كالدين المتبع اعترافاً بفضله وشرفه ويمنه.
وقد اتسم (الملأ) بالمحافظة الشديدة على العقائد والتقاليد والأعراف السائدة لتأكيد حقوقهم الموروثة ومكانتهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية وكل ذلك يتحقق بالمحافظة على الأوضاع السائدة ووحدة أهل مكة، مما يفسر شدة مقاومتهم للإسلام عند ظهوره، فقد رأوا فيه تهديداً لوحدة قريش، وأغاظهم جداً أن يهاجر المسلمون إلى الحبشة ثم المدينة.
لقد قام أبناء قصي وأحفادهم بأعمال مهمة أدت إلى ازدهار مكة وبنفس الوقت أبرزت مكانتهم وفضلهم وشرفهم ومكنت لسيادتهم. وإذا استعرضنا ما انجزوه، فإن قصياً هو الذي جمع قريشاً ومكن لها في مكة ونظم شؤونها، وأمسك أبناؤه بزمام وظائفه من بعده من السقاية والرفادة والحجابة واللواء والندوة، وتمكن هاشم بن عبد مناف بن قصي من عقد الإيلاف وتوسيع نطاق التجارة المكية بإخراجها من الحدود المحلية إلى النطاق الدولي، وقام بحفر عدة آبار لخدمة قريش والحجيج معاً، وعرف المطلب أخو هاشم بالنسك والأمر بترك الظلم والبغي والحث على مكارم الأخلاق، وعرف عبد المطلب بن هاشم بالفياض لجوده وبشيبة الحمد لكثرة حمد الناس له، وقد اشتهر بحفر ماء زمزم التي طغت على مياه آبار مكة الأخرى لغزارتها ودوامها وأنها ألطف مذاقاً من مياه