للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَقُومُونَ بِها- وَهُم كَمَا عَرَفْنا مِنَ الفَقْرِ، وشَظَفِ العَيْشِ، وصُعُوبةِ وَسَائِلَ السَّفَرِ والارْتحَالِ ... أَدْرَكَ عُلُوَّ هِمَمِهِم في الصَّبرْ والتَّحَمُّلِ، وعَلِمَ غَلَاءَ العِلْمِ لَدَيْهِم وعَلَى قُلُوبِهِم، إذ رَكِبُوا في تحْصِيلهِ الصَّعْبَ والذَّلُولِ، وقَطَعُوا البَرارِي والقِفَارَ، وامْتَطُوا مِنْ أَجْلِهِ المَخَاطِر والبِحَارِ، ولَقُوا مَا لَقُوا مِنَ الشَّدَائدِ والأَهْوَالِ مَا الله به عَلِيمٌ ....) (١).

وبعد هَذِه المُقَدِّمة لأَهَمِّيةِ الرِّحْلَةِ في طَلَبِ الحَدِيث أَذْكُر ما قَامَ به الإمَامُ أَبو القَاسِمِ ابنُ مَنْدَه مِنْ رِحْلَات عِلْمِيَّةِ، فإنَّهُ لمَّا بَلَغَ الثَّالِثةَ والعِشرينَ مِنْ عُمُرهِ -وكانَ قد اسْتَوْفَى قِسْطًا مُهِمًّا مِن العَلْم على شُيُوخِ بَلَده أَصْبَهَانَ ومَا يُجَاوِرُها ومِنَ القَادِمينَ عَلَيْهَا- عَزَم على طَلَبِ المَزِيدِ، ومجُالَسةِ أَعْيَانِ العُلَمَاءِ.

وكانتْ مَرَاكِزُ العِلْمِ مُنْتَشرِةً في طُولِ العَالِم الإسْلَامِيِّ وعَرْضهِ، والعُلَمَاءُ والمُحَدِّثُونَ والفُقَهَاءُ مُنْتَشِرُونَ في كَافَّةِ الأَصْقَاعِ، ولَكِنَّ الإشْعَاعَ كَانَ يَنْتَشرُ مِنْ مَرَاكِزَ اسْتَطَاعتْ أنْ تَسْتَقْطِبَ أَهْلَ العِلْمِ في الحَدِيثِ والرِّوَايةِ وغَيرها، واشْتَهَرت فيها حَلَقَاتُ التَّدْرِيسِ والسَّمَاعِ والإقْرَاءِ، وكانتْ بَغْدَادُ آنذاكَ مِنْ أَشْهَرِ المَرَاكِزِ العِلْميَّةِ التي كانَ يَتَوجَّهُ إليها الطَّلَبةُ، فَهِي كَمَا وَصَفَها بَعْضُ الأُدَبَاءِ: (كانتْ جنَّةَ الأَرْضِ، ومَدِينةَ السَّلَامِ، وقُبَّةَ الإسْلَامِ، ومجْمَعَ الرَّافِدَيْنِ، وغُرَّةَ البِلَاد، وعَينْ العِرَاقِ، ودَارَ الخِلَافةِ، ومجْمَعَ المَحَاسِنِ والطَّيِّبَاتِ، ومَعْدَنَ الظَّرَائِفِ واللَّطَائِفِ، وبِهَا أَرْبَابُ الغَايَاتِ في كُلِّ فَنٍّ، وآحَادُ الدَّهْرِ في كُلِّ نَوْعٍ) (٢).


(١) ينظر: (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) ص ١٠٨.
(٢) ينظر: معجم البلدان ١/ ٤٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>