المسلمين غرب أوربا بفتح بلاد الأندلس، وتوغلوا فيها زمنا مستقرين أو مناوشين فنشروا هنالك حضارة وقعت من أمم غرب أوربا بمحل الإعجاب، وكانت لفتح عين نهضتهم أكبر الأسباب.
وقد أخذت ممالك غرب أوربا في القرن الرابع عشر من تاريخهم المسيحي تسعى بخطى واسعة إلى تأسيس تمدن منتظم، وحضارة فكرية سامية ومتماثلة تؤذن بما سيكون لممالك هذه القارة من الشأن والاتحاد التمديني في تاريخ التمدن الحديث، وسيادة العالم عن قريب، وكانت أوربا الشرقية حينئذ مندحرة إلى السقوط والانحلال فكان مستقبل سيادة العالم صائرا إلى غرب أوربا.
ويومئذ كان المسلمون متزحزحين عن ممتلكاتهم الوحيدة في أوربا، وهي كور بلاد الأندلس؛ إذ قد استرد ملوك الجلالقة معظم تلك البلاد التي انتزعها منهم المسلمون، فانحصر ملك المسلمين من الأندلس في أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل التاسع في رقعة ضيقة من أرض الأندلس هي كورة البيرة، وهي قطعة بين مدينة رندة ومدينة ألبيرة من الغرب إلى الشرق في مسافة عشر مراحل (أي: ثلاثمائة ميل)، وفيما بين البحر الأبيض وبين غرناطة من الجنوب إلى الشمال في مقدار مسافة مرحلة واحدة (أي: ثلاثين ميلا) على أن تلك القطعة لم تلبث أن سلبت منهم فيما بعد، فيعد المسلمون يومئذ في حكم المسلوبين من الملك في أوربا.
فلو بقي المسلمون منزوين في آسيا وإفريقيا لكانوا عاكفين على حضارة قديمة ولما نالهم شيء من سريان تلك الحضارة الجديدة، وما استطاعوا أن ينغمروا فيها ولكان حظهم عند استتباب العظمة لأوربا هو الخمول والخضوع تحت سلطان أوربا للعجز عن مجاراة أممها الناهضة، ولا ندري مقدار ما كان يحصل من الوهن والضعف في السلطنة الإسلامية، وإلى أين يرمي ذلك الضعف بحكومة الإسلام من مرامي الإهمال تجاه الأمم المعاصرة.
فكان لزاما لاستبقاء حضارة المسلمين وقوتهم وحظهم من السيادة في العالم المتمدن الذي هو بصدد التكون، أن تكون لهم قدم في أوربا مهد تلك الحضارة