إهاب الخلافة الأموية، فما استتب الأمر للعباسيين بعد لأي حتى تطرق الوهن للخلافة حين انشقت عنها الدولة الأموية بالأندلس والحسنية بالمغرب الأقصى، ولقد تحمل خلفاء العباسيين ذلك على تبرم ولسان الحال ينشدهم:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
وإن ذلك الانشقاق وإن كان صدعًا عميقًا في محيط الجامعة الإسلامية لم يظهر إضراره أيامئذ؛ إذ كانت حرمة الخلافة الإسلامية في الشرق وهو أشهر العالم يومئذٍ ما برحت قائمة في النفوس مرموقة بالجلالة في العيون، وظلت المملكة الإسلامية فيما عدا ذينك القطرين مجتمعة الكلمة قائمة الشوكة، ثم انفتقت الفتوق بظهور استقلال الأمراء والقواد في أطراف الخلافة الإسلامية، وضعف الخليفة من الظفر بهم ابتدأ ذلك من عهد المعتصم بالله العباسي أواخر القرن الثالث، ثم استفحل في صدر ولاية المطيع سنة (٣٣٨ هـ) فلم يزل أمر الخلافة يتضاءل والفتق يتواصل حتى اتسع الخرق على الراقع، وأصبحت رباعها وهي بلاقع، يوم أقصى هولاكو خان بقية العباسيين من بغداد، فثووا بمصر، وكان حظهم فيها الإبلاس والحصر، فلم يبق للخلافة إلا الدعاء في الجمع والأعياد، وما حياة من ليس حظه غير الرفع على الأعواد.
لقد زلزلت الخلافة بدخول جند التتر بغداد سنة (٦٥٦ هـ) وسلطانهم هولاكو خان والخليفة يومئذٍ المستعصم بالله عبد الله بن المستنصر فقتلوه، وأعملوا السيف في بني العباس فلم ينج منهم إلا من عصمه الأجل، وقد كان أحمد بن الظاهر العباسي عم المستعصم قد نجا مترددًا في أحياء العرب إلى أن وصل مصر سنة (٦٥٩ هـ) وسلطان مصر يومئذٍ الظاهر بيبرس، فبادر الظاهر إلى مبايعة أحمد بالخلافة وحاول أن يخضد به شوكة التتر فسيره بجيش إلى بغداد، فلما جهزه بجيشه تلقاه جيش هولاكو في موضع يقال له غانة فقتل هنالك، ثم ظهر بعد مدة غير طويلة رجل من عقب المسترشد العباسي وهو أحمد بن علي بن أبي بكر بن أحمد بن المسترشد، وقدم إلى مصر فسُر به الملك الظاهر وبايع له بالخلافة ولقبه بالحاكم وفوض إليه أمور العامة والخاصة، كما فوض هو للملك الظاهر عهدة البلاد، فبقي هو وعقبه بمصر يُدعى لهم في الخطب، وتكتب أسماؤهم في السكة، ويتبرك بهم وبأسمائهم على أنهم حفظة سياج الدين، وكان ملوك الإسلام يكتبون إلى الخليفة بمصر يستمنحون منه التقليد بالولاية، فكان ذلك مبلغ الخليفة من الخلافة، فكان مقام الخلافة في هذه المدة مقامًا صوريًا.