ثم إن قوة أساطيل الدول المحاربة للدولة العثمانية كانت قد رجحت رجحانًا عظيمًا على أساطيل دول الإسلام، فكانت القرصنة تنال من المسلمين ما لا تناله قرصنة هؤلاء من الأوربيين، فأصبحت أسرى المسلمين في البلاد الأجنبية أوفر بكثير مما بيد المسلمين من الأسرى، وذلك كلف المسلمين إنفاق ذهب كثير لفداء أسرى المسلمين من أيدي البندقيين والجنوبيين والإسبنيول.
وبإجالة نظرة واسعة على حالة المسلمين في القرن الحادي عشر يظهر للناظر أن لم شعث المسلمين قد أصبح أمرًا عسيرًا، وأن تجديد أمرها بمعناه الكامل أوشك أن يكون متعذرًا، وأن حالة التجديد لم يبق مطمع فيها إلا أن تكون بمنزلة التنفيس على الأمة من أضرار حائقة، ونوائب حالقة، كان أمر الدين حينئذٍ في أشد الحاجة إلى استتباب الأمن برًا وبحرًا، وإلى تفوق حربي أو صلح سياسي تلم به بلاد الإسلام شعثها، لتسلم من الرزايا، وتستبقي مالها، ويقبل أهلها على العلم والعمل، فهي أحوج شيء إلى ذلك، ففي ظلمات هذه الفتن بزغ نور في مقر الخلافة باعتلاء السلطان مصطفى الثاني ابن السلطان محمد الرابع عرش السلطنة في جمادى الثانية سنة (١١٠٦ هـ)، وصادف أن كانت الدولة استراحت من مزاحمة الدولة الفارسية إثر وفاة الشاه عباس، ثم بانعقاد الصلح بين الدولتين في سنة (١٠٤٩ هـ)، وقد دعت السلطان أوصافه الجليلة إلى العمل للم شعث الدولة فقاد الجيوش بنفسه، وانتصر انتصارات على البولونيين والروس، والمجر، أعادت للدولة حسن سمعتها في الحروب ووفق الله هذا السلطان إلى اختيار وزير صالح وهو الوزير حسن باشا كوبرلي، فأسند إليه الصدارة العظمى سنة (١١٠٩ هـ)، ولما استتب له النصر في معظم وقائعه دبر مع وزيره كوبرلي في استثمار تلك الفرصة لفائدة الأمة، فعقد صلحًا مع مملكة النمسا التي لم تزل شديدة الصراع مع جيوش العثمانيين، وتم الصلح في رجب سنة (١١١٠ هـ) صلحًا اقتضى إرجاع بلاد المجر إلى النمسا، وإرجاع بعض مراسي البحر الأسود إلى الروسيا.
وبذلك الصلح توجهت همة السلطان إلى إصلاح ما انهرش من أحوال المملكة وتوابعها وتجديد ما رث من حالة جيشها، وكان السلطان قد قمع جند الإنكشارية وضرب على أيدي زعمائهم، وأبطل الرشوة، ثم توجهت همته إلى تحسين حال الممالك التابعة له، وفي مقدمتها مصر والحجاز؛ إذ أصبح أمراء القطرين يحسبون للسلطنة حسابها بعد تحقق صرامة السلطان مع جند الإنكشارية، وضربه على أيدي المرتشين والمفسدين.