إنّ المقالاتِ العلميّةَ التي تتحدَّثُ عن الذاكرةِ تقولُ:"إنّ الإنسانَ إذا عاشَ ستِّين عاماً فهناك مِن الصُّوَرِ التي تختزنُها ذاكرتهُ ما يزيدُ على ستين مليار معلومةٍ! فلو أرَدْنَا أن ننسخَ هذه المعلوماتِ في كتبٍ لاحتاجتْ إلى آلاف المجلّدات، كلُّها كتبٌ تختزنُ المعلوماتِ التي لا نعرفُ حتى الآنَ مكانَها في الدّماغِ، وهناك نظريّاتٌ جديدةٌ تفترضُ أنّ الذاكرةَ ليس لها مكانٌ في الدّماغِ؛ إنّها مرتبطةٌ بالحياةِ النفسيّةِ.
على كلٍّ هذه المعلوماتُ التي تأتي إلى الإنسانِ بعضُها يخزَّنُ في مكانٍ قريبٍ، لِيَسْهلَ استرجاعُه، وبعضُها يخزَّنُ في مكانٍ متوسّطٍ، وبعضُها يخزَّنُ في مكانٍ بعيدٍ، وبعضُها لا يخزَّنُ إطلاقاً، فإذا خُزِّنَتْ تتوزَّعُ بِحَسبِ نوعِها، فثمة ذاكرةٌ للمشمومات، وذاكرةٌ للمُبصراتِ، وذاكرةٌ للوجوهِ، وذاكرةٌ للألوانِ، وذاكرةٌ للعُطورِ، وذاكرةٌ للأسماءِ، هذا شيءٌ دقيقٌ، أمَّا إذا أرَدْنَا اسْتِدعاءَ شيءٍ، أو أرَدْنَا معرفتَه فيقولُ العلماءُ: "إنَّ الذاكرةَ تَسلُكُ طريقةَ الترميزِ في وَقتٍ سريع"، فإذا قُدِّمَ لك عِطرٌ شمِمْتَه، لأنه قد خُزِّنَ في ذاكرتِك سبعةٌ وتسعون نوعاً من العطورِ، وإنّ هذا العِطرَ الذي شممْتهُ الآن يمرُّ على هذه الأنواعِ كلِّها إلى أن يأتيَ التطابقُ، وتقولُ: هذا العِطرُ اسمُه كذا، هذا في المشموماتِ، وهذا في المطعوماتِ، وهذا في الذوقيَّاتِ، وهذا في المبصراتِ، وهذا في الوُجوه، وهذا في الأسماءِ والأرقامِ، وفي كلِّ شيءٍ، المعلوماتُ المتوافرة عن الذاكرةِ متواضعةٌ جدّاً، ومع ذلك ففيها حقائقُ يحارُ فيها أصحابُ العقولِ.
وعُرِفَ عند العلماءِ: "أنّ الذاكرةَ قاموسٌ ومترجمٌ فوريٌّ"، والشيءُ الذي يُدهِشُ أنّ الخليةَ العصبيّةَ لا تنقسمُ، ولا تموتُ، فلو أنّها انقسمَتْ، وماتتْ لَفَقَدَ الإنسانُ خِبراتِه كلَّها، يقول لك: أنا خِبْرَتي في الطبِّ أربعونَ عاماً، وأنا خبرتي في القانونِ خمسون عاماً، وهذا خبرتُه في الصّناعةِ كذا سنة، كلُّ هذه الخبراتِ تتراكمُ، وتتراكمُ حتى ينْمُوَ الإنسانُ، ولو فَقَدَ ذاكرتَه لفقَدَ كلّ خِبراتِه دفعةً واحدةً.