فإذا كان الخلْقُ جميعاً في أرقى عصورِهم العلميّةِ عاجزين عن أنْ يخلقوا ذباباً، فقد قال الخلاَّقُ العليمُ:{وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب} .
كيف عرف الحديثُ النبويُّ هذه الحقيقةَ، مِن أين عرفَها؟ أكان هناك تحليلٌ عنده؟ أكان هناك معاملُ للتحليل؟ أكان هناك ميكروسكوبات؟ كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ؛ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَالأُخْرَى شِفَاءً"، وكيف أنّ العلمَ الحديثَ أثبتَ ذلك؟.
إنْ هو إلا وحيٌ يوحَى، وإنّ السنةَ المطهرةَ، بل إنّ ما تواترَ من السنةِ المطهرةِ قطعيُّ الثبوتِ، ومنه ما هو قطعيُّ الدلالةِ، ومَن أَنْكَرَهُ فقدْ كفرَ.
دقِّقوا في آياتِ اللهِ التي بثَّها في الكون، {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}[يونس: ١٠١] .
قال ابنُ القَيِّمِ في "الطبِّ النبويِّ" معلَّقاً على حديث: إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ ... :"هذا الحديثُ فيهِ أمْرانِ، أمرٌ فقهي، وأمرٌ طبيٌّ ... وأما المعنى الطبِّي - أي في الحديث - فقال أبو عبيد: معنى أمقِلوه: أغْمسوه، ليخرجَ الشفاءُ منه كما خرجَ الداءُ ... واعلمْ أنّ في الذبابِ قوةً سُمِّيةً يدلُّ عليها الورمُ والحكّةُ العارضةُ عن لسعٍ، وهي بمنزلةِ السلاحِ، فإذا سقطَ فيما يؤذيه اتّقاهُ بسلاحِه، فَأَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُقابلَ تلك السّمِّيةَ بما أوْدَعَه الله سبحانه في جناحِه الآخرِ من الشفاءِ، فيُغمَسُ كلُّه في الماءِ والطعام، فتُقابل المادةُ السمّيةُ المادّةَ النافعةَ فيزولُ ضررُها، وهذا طبٌّ لا يهتدي إليه كبارُ الأطباء، وأئمتُهم، بل هو خارجٌ من مشكاةِ النبوةِ، ومع هذا فالطبيبُ العالمُ العارفُ الموفَّقُ يخضعُ لهذا العلاجِ، ويقرُّ لمن جاءَ به بأنه أكملُ الخلْقِ على الإطلاقِ، وأنه مُؤَيَّدٌ بوحيٍ إلهيٍّ خارجٍ عن القُوى البشريةِ".