إنّ مِن نِعَمِ اللهِ عز وجل التي لا ننتبِهُ لها نعمةَ الشَّمِّ، ولقد أقامَ العلماءُ موازنةً بين الشمِّ والبصرِ، فالعينُ لا ترَى إلا بوسيطٍ، وهو الضوءُ، ولكنّ الشمَّ لا يحتاجُ إلى وسيطٍ، فالإنسانُ يشمُّ ليلاً ونهاراً، في ضوءٍ شديدٍ، وفي ظلمةٍ شديدةٍ، ولا يحتاجُ الشمُّ إلى اتصالٍ قريبٍ مباشرٍ بينك وبين الشيءِ، كما هو في السمعِ؛ لذلك قالوا: الشمُّ يعطيك دائرةَ أمانٍ واسعةً جداً، وأنت نائمٌ قد تشمُّ رائحةَ الغازِ في البيتِ، بلا صوتٍ ولا ضوءٍ، ولا ثمةَ اتصالٌ مباشرٌ، أنت في غرفةِ النومِ، وموقدٌ للغازِ في المطبخِ، والأبوابُ مقفلةٌ، والظلامُ شديدٌ، والصوتُ معدومٌ، والاتصالُ المباشرُ معدومٌ، ومع ذلك تشمُّ فتستيقظُ، وتُغلقُ موقدَ الغازِ، إذاً الشمُّ يعطيك دائرةَ أمانٍ واسعةً جداً.
مَنْ يصدِّقُ أنّ في أنفِه مئةَ مليونِ خليّةٍ عصبيةٍ مخصّصةٍ لحاسَّةِ الشمِّ، هذه الخلايا العصبيةُ تتركَّزُ، وتتمرْكزُ في القرنِ العلويِّ للأنفِ، بمساحةٍ لا تزيدُ على مئتين وخمسين ميليمتراً مربعاً، هذه الخليةُ العصبيةُ التي تعدُّ عشرين مليوناً لها أهدابٌ لا تقِلُّ عن سبعةِ أهدابٍ، هذه الأهدابُ عليها سائلٌ مخاطيٌّ فيه موادُّ دهنيةٌ مُذِيبةٌ، تتفاعلُ مع الرائحةِ تفاعلاً كيميائياً، فينتجُ عن هذا التفاعلِ شكلٌ هندسيٌّ متميِّزٌ، يتكوَّنُ تِبْعاً لطبيعةِ الرائحةِ.
فرائحةُ الزهورِ مثلاً الشكلُ الهندسيُّ الناتجُ عن تفاعلِها مع أهدابِ خلايا الشمِّ هو شكلُ مفتاحٍ، ورائحةُ الأثير مثلاً على شكلٍ مستطيلٍ، أو على شكلِ حوضِ سباحةٍ، وهكذا كلُّ تفاعلٍ بين الرائحةِ والأهدابِ الشَّمِّيةِ ذاتِ الخاصةِ المذيبةِ، والتي تتفاعلُ مع الرائحةِ تفاعلاً كيماويّاً.
هذا الشكلُ الهندسيُّ يرسلُ إشارةً عن طريقِ العصبِ الشَّمِّيِّ الذي يتوضَّعُ في سقفِ الأنفِ، إلى مركزِ الشمِّ في الدماغِ.