وإنَّ النملةَ تملكُ نوعاً من التصرُّفِ العقلانيِّ، وهي مِن أذكى الحشراتِ، وهي ترى بموجاتٍ ضوئيةٍ لا يراها الإنسانُ، ولغةُ النملِ كيماويةٌ، لها وظيفتان؛ التواصلُ والإنذارُ، فلو سَحَقْتَ نملةً فإنَّ رائحةً تصدرُ عنها، تستغيثُ بها النملاتُ، أو تحذِّرُها من الاقترابِ مِن المجزرةِ، ولا تستطيعُ نملةٌ دخولَ مسكنِها إلا إذا بيِّنتْ كلمةَ السِّرِّ.
وتضعُ إناثُ النملِ بيوضَها في أماكنَ تقربُ من مساكنِ الكبارِ، وتخصِّصُ لها مربِّياتِ يلاحظنَهنَّ ليلاً ونهاراً، مع توفيرِ الحرارةِ المناسبةِ لها حتى تتفتَّح البيوضُ، وتخرج دوداً صغيراً لا جناحَ له ولا أرجلَ، تلاحظُه المربِّياتُ وتطعمهُ، حيث يأكل بشراهةٍ لعدَّةِ أسابيعَ، ثمّ يغزلُ بفمِه، وينسجُ على نفسِه كُرةً من الحريرِ وينامُ، فإذَا مضتْ أيامٌ نهضَ مِن رقدتِه، وقطعَ خيوطَ الكُرةِ، وقرَضَ حريرَها المحيطَ به، تساعدُه في ذلك المربِّياتُ، وتقومُ بتنظيفِه، حيث تظهرُ أرجلُه وأجنحتُه، والنملُ يحبُّ النظافةَ حبّا مفرطاً.
ويعرفُ النملُ غيره من النمل بغيرِ علامةٍ، والتواددُ موجودٌ بين أهلِ القريةِ الواحدةِ فقط، ما عدا ذلك فعداءٌ مُستَحْكَمٌ، حيث يمكنُ أن تنشَبَ الحربُ بين عدةِ قرًى من النملِ، فينتظِمُ في صفوفٍ قتاليةٍ، وتحدثُ المعاركُ، ويقعُ القتلى والجرحى، ويأخذُ النملُ المنتصِرُ الأسرى ليجعلهم خدماً في قُراه، ويقومُ بدفنِ موتاه في مقابرَ خاصَّةٍ به، كما ينظِّف أرضَه من جثثِ أعدائِه، حتى قيل: إنّ النملَ أقربُ الحشرات إلى الإنسانِ في أفعالِه، وقد يصبحُ النملُ قوةً مزعجَةً مهلِكةً، شديدةَ الخطرِ على الإنسانِ نفسِه، حيث يمكنُ أن يقوِّضَ دعائمَ المساكنِ الخشبيةِ، حتى تتداعى عروشُها، أو يكوِّنَ مستعمراتٍ في دورِ الكتبِ، حيث يقومُ بإتلاف الورق أكلاً وتمزيقاً.