للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهي نموذج القرآن الذي يرسم أسسه وحقائقه في كل نفس، ويصور معانيه في كل قلب: العلماء والدهماء على اختلاف منازلهم، وتباين درجاتهم، إذا ما لفتوا أفهامهم بعض اللفت، ووجهوا قلوبهم نوع توجيه، آتتهم هذه الفاتحة المباركة ذلك النموذج القرآني، وتلك الصورة الحقة لمقاصد الكتاب الحكيم.

ولهذه السورة أسماءٌ متعددةٌ، نذكر منها:

أولا: - فاتحةُ الكتابِ (١):

ورد في "الصَّحيحين" عن عُبادة بنِ الصَّامِت أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " (٢)، وإنَّما سُمِّيت "فاتحة الكتاب" لافتتاح سُور القرآن بها كتابةً، وقراءةً في


(١) لقد اشتملت السورة على كل معاني القرآن وهذا هو سر الفاتحة. فمعاني القرآن ثلاثة: (١ - العقيدة: " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم" ٢ - العبادة: " إياك نعبد وإياك نستعين" ٣ - مناهج الحياة: " اهدنا الصراط المستقيم، صراط اللذين أنعمت عليهم"، وكل ما بعد الفاتحة من قرآن يشرح هذه المحاور الثلاثة، والفانحة تذكرنا بكل أساسيات الدين:
١ - نعم الله: " الحمد لله رب العالمين" ٢ - الإخلاص: " إياك نعبد وإياك نستعين"٣ - الصحبة الصالحة" صراط اللذين أنعمت عليهم"٤ - التحذير من صحبه السوء: " غير المغضوب عليهم" ٥ - أسماء الله الحسنى: " الرحمن الرحيم" ٦ - أصل صلة الله بك: " الرحمن الرحيم" ٧ - الاستقامة: " اهدنا الصراط المستقيم" ٨ - الآخرة: " الصراط" ٩ - أهمية الدعاء.١٠ - وحدة الأمة: " نعبد ...... نستعين" فجاءت الصيغة هنا جماعة وليست مفردا للتأكيد على وحدة الأمة.
والفانحة تعلمنا كيف نتعامل مع الله: فجاءت نصفها ثناء والنصف الآخر دعاء، فحتى لو قسمت حروفها لوجدت أن نصف الحروف ثناء والنصف الثاني دعاء. فعند دعائنا لله تعالى يجب أن نبدأه بالثناء على الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته ثم نتوجه بما نريد من الدعاء.
ومن جماليات الأسلوب القرآني: علاقة أول الفاتحة بنهاية المصحف، إذ ترى في سورة الفاتحة " الحمد الله رب العالمين" وفي سورة الناس " قل أعوذ برب الناس" فقد بدأ المصحف برب العالمين واختتم المصحف برب الناس.
(٢) صحيح البخاري: (٧٥٦)، وصحيح مسلم: (٣٩٤). وقد احتج العلماء بهذا الحديث على أن الفاتحة ركن في الصلاة لابد منها في حق الإمام والمنفرد، وحاصل المسألة أن المنفرد والإمام يجب عليهما قراءة الفاتحة مطلقا في الصلاة السرية والجهرية، أما المأموم فيجب عليه أن يقرأ حال الركعات السرية كالظهر والعصر والأخيرتين من العشاء وثالثة المغرب، أما في الركعات التي يجهر فيها الإمام فلا يجب عليه القراءة ولا يجب عليه السكوت، ولكن المستحب المتأكد في حقه الإنصات والاستماع إلى قراءة الإمام، فإن لم يسمع قراءة الإمام لبُعْد المكان أو لتَعَطُّل مُكَبِّر الصوت أو لصَمَمٍ فيجب عليه قراءة الفاتحة عملا بالأصل.
وتجدر الإشارة بأن قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس للمأموم أن يقرأ في الصلاة الجهرية إذا كان يسمع الإمام لا بالفاتحة ولا بغيرها وهذا قول جمهور العلماء من السلف والخلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأحد قولي الشافعي، وممن قال بهذا القول من المعاصرين العلامة الألباني والشيخ أبو بكر الجزائري والشيخ سيد سابق والشيخ محمود المصري.
القول الثاني: يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية كالسرية وهو المذهب عند الشافعية وقول البخاري وابن حزم من الظاهرية، وقال بصحته القرطبي، وممن قال بهذا القول من المعاصرين: العلامة ابن باز وابن عثيمين، والشيخ عبد الله بن قعود، والشيخ عبد الله بن غديان والشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ محمد بن عبد المقصود.
القول الثالث: يستحب للمأموم قراءتها وهو قول جماعة من أهل العلم منهم الأوزاعي.
والذي يبدو لي أن أعدل الأقوال وأقربها للصواب هو القول الأول قول الجمهور وأن المأموم لا يقرأ في حال الجهر لا بالفاتحة ولا بغيرها إذا كان يسمع قراءة الإمام هذا ما يدل عليه عمل أكثر الصحابة رضي الله عنهم وتتفق عليه أكثر الأحاديث ولأن الله تعالى أمر بالإنصات لقراءة الإمام في الصلاة فقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: ٢٠٤] ويؤيد دلالة الآية على وجوب الإنصات لقراءة الإمام ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: أقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا .. وذكر الحديث الطويل" وزاد بعض رواته: "وإذا قرأ فأنصتوا" وقد ذكرها في صحيحه. وقد رواها أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا" وقد سئل مسلم بن الحجاج عن حديث أبي هريرة هذا فقال: هو عندي صحيح. ومما يدل على منع المأموم من القراءة حال جهر الإمام ما رواه أصحاب السنن وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟ فقال رجل: نعم يارسول الله. فقال: إني أقول: مالي أنازع القرآن قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقد تكلم في هذا الحديث بعض أهل العلم من جهة ابن أكيمة الراوي عن أبي هريرة وليس ذلك بشيء فقد قال عنه يحيى بن سعيد عمرو بن أكيمة ثقة ووثقه غير واحد من أهل العلم. كما أنه طعن في الحديث من جهة أن قوله في الحديث: "فانتهى الناس ... "مدرج من كلام الزهري كما قاله البخاري والذهلي وأبو داود وغيرهم والجواب عن هذا أن ذلك لا يسقط الاحتجاج بالحديث سواء كان ذلك من قول أبي هريرة أو من قول الزهري، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (٢٣/ ٢٧٤): "وهذا إذا كان من كلام الزهري فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون في الجهر مع النبي صلى الله عليه وسلم فإن الزهري من أعلم أهل زمانه أو أعلم أهل زمانه بالسنة وقراءة الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة تكون من الأحكام العامة التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان فيكون الزهري من أعلم الناس بها فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي في الجهر" انتهى كلامه رحمه الله.
ومما يستأنس به في عدم وجوب القراءة على المأموم في الجهرية الحديث المشهور "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" وهذا الحديث أخرجه جمع من الأئمة بطرق متعددة مسنداً ومرسلاً عن جماعة من الصحابة أمثلها حديث جابر على ضعف فيه وكثرة كلام النقاد فيه ومع ذلك فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله في مجموع الفتاوى (١٨/ ٢٧١ - ٢٧٢): "وهذا الحديث روي مرسلاً ومسنداً لكن أكثر الأئمة الثقات رووه مرسلاً عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأسنده بعضهم ورواه ابن ماجه سندا وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم". وممن استوعب الكلام في الحديث وطرقه الدارقطني رحمه الله في علله ومما تقدم يتبين أن ما رواه البخاري ومسلم وغيرها من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ليس على عمومه بل هو مخصوص بما تقدم من النصوص ومثله ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القران فهي خداج ثلاثاً غير تمام" فكل هذا وأمثاله محمول على غير المأموم جمعاً بين الأحاديث ومما يؤيد عدم العموم فيها ما حكاه الإمام أحمد رحمه الله من إجماع. قال رحمه الله: "ما سمعنا أحداً من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ".
أما حديث عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم قلنا: يا رسول الله إي والله. قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" وقد أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه وفيه محمد بن إسحاق وقال عنه أحمد: لم يرفعه إلا ابن إسحاق. وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (٢٣/ ٢٨٦): "هذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة ضعفه أحمد وغيره من الأئمة". وقال بعد ذكر من صحّح الحديث وحسنه (٢٣/ ٣١٥): " ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هل يقرؤون وراءه بشيء أم لا؟ ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان قد أمرهم بذلك وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولو بيّن ذلك لهم لفعله عامتهم ولم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم. ولم يكن يحتاج إلى استفهامه فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم القراءة خلفه حال الجهر ثم إنه لما علم أنهم يقرؤون نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر سواء كان بالفاتحة أو غيرها فالعلة متناولة للأمرين فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباسها على الإمام منهي عنه".
ولذلك فالذي يظهر لي أن المأموم لا يجوز له القراءة حال جهر الإمام بالقراءة لما تقدم من الأدلة ولما في حديث عبادة من معنى النهي لكن إن تمكن المأموم من القراءة في سكتات الإمام فهذا المطلوب وإلا فلا شيء عليه لتركه القراءة أخذ بما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" وهذا الحديث أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(انظر في هذه المسألة: مجموع الفتاوى لابن تيمية مجلد ٢ ص ١٤١ - ١٥٠ مسألة القراءة خلف الإمام دار الفكر ١٤٠٣ هـ ١٩٨٣ م، ومجموع فتاوى ورسائل العثيمين: ١٣/ ١٣١، انظر مبحث ألفاظ العموم ودلالة العام في علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ٢١٠ - ٢١٢ دار الحديث ١٤٢٣ هـ ٢٠٠٣ م، وفي الوجيز في أصول الفقه د. عبد الكريم زيدان ٣٠٥ - ٣١٠ مؤسسة الرسالة الطبعة السابعة ١٤٢١ هـ ٢٠٠٠، وفي علم أصول الفقه د. محمد الزحيلي ٢٥٦ - ٢٦١ دارالقلم الطبعة الأولى ١٤٢٥ هـ ٢٠٠٤ م وفي شرح الأصول من علم الأصول لابن عثيمين ١٩٠ - ٢٠٥ المكتبة التوفيقية وفي مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي ١٩٥ - ١٩٨ مكتبة العلوم والحكم الطبعة الرابعة ١٤٢٥ هـ ٢٠٠٤ م).
وينبغي أن يتنبه أن هذه المسألة هي من مسائل الاجتهاد، فمن كان عنده القدرة على النظر في الأدلة والترجيح بينها: فإنه يعمل بما ترجح لديه، ومن لم يكن عنده القدرة على ذلك فإنه يقلد عالما يثق في دينه وعلمه، ولا يجوز أن تُتخذ هذه المسألة الاجتهادية مثارا للطعن في العلماء، أو الجدال المؤدي إلى التعصب والتفرق واختلاف القلوب. والله تعالى أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>