للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن هذا الحديث نستنبط أن الخمر حرمت على مراحل فتاب الناس والصحابة منها حتى جرت في سكك المدينة، ولو حرمت دفعة واحدة لاستمروا عليها، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل (١) فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء (لا تشربوا الخمر) لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا قالوا: لا ندع الزنا أبدًا " (٢).

ب-التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علمًا وعملًا، فبدأت الآيات تنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سالكة التدرج في تربية الأمة، فأول ما نزلت الآيات المتعلقة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره والتوحيد وما يتعلق بذلك من أمور العقيدة، بدأت الآيات أولًا بفطامهم عن الشرك والإباحية وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء، فإذا اطمأنت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبه انتقل بهم بعد ذلك إلى العبادات فبدأهم بالصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج ثم الأمور الأخرى، ولذلك كان مدار الآيات في القسم المكي على إثبات العقائد والفضائل التي لا تختلف باختلاف الشرائع، بخلاف القسم المدني فكان مدار التشريعات فيه على الأحكام العملية وتفصيل ما أجمل قبل ذلك (٣).

لذا أنزل القرآن مفرقًا فحصلت النتيجة المطلوبة وهي التغير في العادات من حسن إلى أحسن ومن شر إلى خير ومن تفرق في الكلمة إلى اتحاد واعتصام بحبل الله المتين فكانت خير الأمم.

الحكمة الثالثة: بيان بلاغة القرآن الكريم فقد نزل مفرقًا في ثلاثة وعشرين عامًا، وكلما نزلت آية أو آيات قال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - " ضعوا هذه الآيات في موضع كذا من سورة كذا " (٤)، ومع ذلك فهو مترابط في الألفاظ والمعاني، حسن التنسيق، محكم النسج، دقيق السبك، متناسق الآيات والسور، متين الأسلوب، قوي الاتصال، لا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك كأنه عِقْدٌ فريد نظمت حباته بما لم يعهد له مثيل في كلام البشر {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١].

وكل ذلك فيه دلالة على أن القرآن مُنَزَّلٌ من الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأنه كلام الله تعالى ولا يمكن أن يكون كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا كلام مخلوق سواه، وصدق الله إذ يقول: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: ٦].

[الحكمة الرابعة: مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها]

فكانت تحدث حوادث لم يكن لها حكم معروف في الشريعة الإسلامية، فيحتاج المسلمون إلى معرفة ذلك فتنزل الآية من الله تبارك وتعالى لحكم تلك الحوادث، ومن ذلك حادثة


(١) سور القرآن على أربع أقسام وأنواع فمنها السبع الطوال أولها البقرة، ومنها المئون، والمثاني، والمفصل: ما وَلِيَ المثاني من قصار السور، وسمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة، انظر الإتقان ١ ١٧٩، ١٨٠.
(٢) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن ص ١٠٨٧ (٤٩٩٣).
(٣) المدخل لدراسة القرآن ٧٤.
(٤) الترمذي تفسير القرآن (٣٠٨٦)، أبو داود الصلاة (٧٨٦)، أحمد (١/ ٦٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>