للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما ما ورد من نزول سورة الأنعام جملة يشيعها سبعون ألف ملك. فلم يخل من خلاف. فقد قال ابن الصلاح في فتاويه: "الحديث الوارد في أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبي بن كعب وفي إسناده ضعف، ولم نر له إسنادا صحيحا. وقد روي ما يخالفه فروي أنها لم تنزل جملة واحدة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها، فقيل ثلاث، وقيل: ست، وقيل غير ذلك (١).

وقد قال ابن عقيلة المكي في توجيه هذا الاعتراض. بأن نزول غالبها في حكم نزولها كلها. قال: "أقول: من قال: إن السورة نزلت كلها فإنما يعني - والله أعلم- الغالب، ولا يضر أن ينزل بعضها بعد ذلك وتمامها، فإن القرآن غالبه إنما ينزل مفرقا آيات. ومثل هذه السورة العظيمة إذا نزل غالبها فيحكم لها بالكل، فإنه نادر الوقوع" (٢).

وقد نزلت سورتا المعوذتين معا بسبب سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله جل شأنه المعوذتين فقرأهما وتعوذ بهما فانحل السحر (٣).

فتبين مما سبق أن القرآن نزل مفرقا: الآية، والآيتان، والخمس، والعشر، وأقل وأكثر. كما نزل جزء الآية. ونزلت سورة كاملة، ونزلت سورتا المعوذتين معا.

ولا شك أن هذه المتابعة الدقيقة من قبل العلماء لجزئيات نزول القرآن الكريم في وقته، وصفته، ومقداره، ويوم إنزاله، وشهره، وكون ذلك ليلا ونهارا، حضرا وسفرا؛ دليل عناية الأمة البالغة بالقرآن الكريم التي ميز الله بها كتابه فصارت من خصائصه التي تفرد بها، وجعلها الله وسيلة حفظ كتابه الذي تكفل به في قوله سبحانه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: ٩].

كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى القرآن من جبريل فيحفظه ولا ينساه {سنقرئك فلا تنسى} فيبلغه أصحابه، ويحفظهم إياه، ويأمرهم بكتابته. فتوفر للقرآن الكريم بالغ العناية به، وكامل وسائل حفظه، والمحافظة عليه. وتلك نعمة ومنة من الله تعالى على الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يشكرون (٤).

[ثالثا: - مراحل جمع القرآن الكريم وترتيبه]

المراد بجمع القرآن عند العلماء أحد معنيين: أولهما الحفظ، وهذا المعنى هو الذي ورد في قوله عز وجل في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه» (٥).

وثانيهما: الكتابة والتدوين، أي كتابة القرآن كله مفرق الآيات والسور، أو مرتب الآيات والسور في صحائف مجتمعة تضم السور جميعا (٦).


(١) فتاوى ابن الصلاح (١/ ٢٤٨)، والبرهان (١/ ١٩٩)، والإتقان (١/ ١٣٧).
(٢) الزيادة والإحسان (١/ ٤٠١).
(٣) انظر: أسباب النزول للواحدي. (٥١٥) والجامع لأحكام القرآن (٢٠/ ٢٥٤)، والزيادة والإحسان (١/ ٤٠٥).
(٤) انظر: نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد لرسول-صلى الله عليه وسلم-: ٦٨ - ٧١، والزيادة والإحسان: ١/ ٤٠٥.
(٥): القيامة الآيات: ١٦ - ١٧ - ١٨.
(٦): أنظر مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص ١١٩ وكذلك الإتقان للسيوطي.

<<  <  ج: ص:  >  >>