للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأبو بكر الصديق فهم بطريق الإشارة ما لم يفهمه عامة الصحابة وأسعد بذلك رسول الله وكان الأمر كما قال.

وعن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَيَتوَلاهَا رَجُلٌ وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ، يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: يَا أهل الْعِرَاقِ اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: ١٦١]، فَالْقُوا اللهَ بِالْمَصَاحِفِ (١).

فالغلول، وهو إخفاء الغنائم طمعا قبل تقسيمها فعل المجرمين، وظاهر الآية ورد في عقابهم وفضحهم يوم القيامة، وقد استخدمها ابن مسعود رضي الله عنه بطريق الإشارة فيمن غل القرآن وأخفاه، ويرد عليهم بأن الصحابة انكروا عليه ذلك، فقَالَ الزُّهْرِيُّ: "فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ" (٢).

وقداختلف العلماء في التفسير الإشاري، وتباينت فيه أراؤهم فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، ومنهم من عده من كمال الإيمان ومحض العرفان، ومنهم من اعتبره زيغا وضلالا وانحرافا عن دين الله تبارك وتعالى، والواقع أن الموضوع دقيق يحتاج إلى بصيرة وروية ونظرة إلى أعماق الحقيقة ليظهر ما إذا كان الغرض من هذا النوع من التفسير هو اتباع الهوى والتلاعب في آيات الله كما فعل الباطنية والشيعة، فيكون ذلك من قبيل الزندقة والإلحاد، أو الغرض منه الإشارة إلى أن كلام الله تعالى يعز أن يحيط به بشر إحاطة تامة، وأن كلامه تعالى وضعت فيه مفاهيم وأسرار ودقائق وعجائب لا تنقضى على مدار الأزمان، ويتوالى إعجازه مرة بعد أخرى، فيكون ذلك من محض العرفان وكمال الإيمان، كما نسب السيوطي إلى ابن عباس رضى الله عنهما: " إن القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون، لا تنقضى عجائبه ولا تبلغ غايته، فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء" (٣).

ويمكن أن نعرض أهم آراء العلماء التي نسترشد بها في تحديد شروط قبول التفسير الإشاري فمن ذلك:

[١ - رأى ابن الصلاح]

ينقل ابن الصلاح عن الإمام أبي الحسن الواحدى المفسر أنه قال: "صنف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن هذا تفسير فقد كفر) ثم يعقب على ذلك بقوله: (وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيء من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير ومن ذلك، قتال النفس في الآية المذكورة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ


(١) انظر: الفكر السياسي عند الباطنية وموقق الغزالي منه، احمد عرفات، رسالة ماجستير، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، ١٩٨٨: ٢١٧.
(٢) المعجم الصوفي، محمود عبدالرزاق: ١/ ١٢٠ - ١٢٣.
(٣) الاتقان في علوم القرآن: ٢/ ١٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>