للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويواصل السراج الطوسي استدلاله على التفسير الإشاري فيقول: "وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: ١٨]، فالقرآن كله حسن ومعنى اتباع الأحسن، ما يكشف للقلوب من العجائب عند الاستماع وإلقاء السمع من طريق الفهم والاستنباط" (١).

ومن السنة يستدلون بقوله: " لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ومطلع" (٢)، فلفظ الظاهر والباطن على زعمهم قرآنيان، ولا يمكن الاعتراض على الفكرة القائلة بأن في القرآن ناحية واضحة تدرك في ضوء الاشتقاق، وأن به ناحية أخرى ربما كانت أخفق وأعمق بالنسبة للأولى، لأن هذه الفكرة يمكن أن تطبق في الواقع على أي نص فكل نص له ناحية قريبة مباشرة تدرك بلا عناء، وناحية أخرى تحتاج إلى عمل وجهد في استيعابها وفهمها، كما لا يمكننا أن ننكر أن الحقيقة الإنسانية الثابتة تشير إلى عدم تساوي الناس في الفهم والإدراك، وقد ظهرت تلك الحقيقة في حياة الرسول وصحابته رضي الله عنهم الذين تفاوتت أقدارهم في سرعة ومدى فهمهم للقرآن، وهذا يفسر ما أثر عنهم من تفسيرات مختلفة (٣).

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أريته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: ٢ - ١]، حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله أعلمه الله له: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: ١]، فتح مكة، فذاك علامة أجلك: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: ٤ - ٣]، قال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تعلم " (٤).

والشاهد هنا أن ابن عباس رضي الله عنه فهم من خطاب الله معنى خفيا وراء ظاهر الألفاظ لم يدركه عامة الصحابة في مجلسهم، وهذا يشبه عمل الصوفية في التفسير الإشاري.

ومثله أيضا ما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله جلس على المنبر فقال: " إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" (٥).


(١) اللمع في التصوف، سراج الطوسي: ١١٣.
(٢) لا أصل له ولم أجده في كتب السنة مرفوعا إلى النبي، ولكنه أثر موقوف على عبدالله بن مسعود، ولفظه: "إن القرآن ليس منه حرف إلا له حد، ولكل حد مطلع". انظر: معجم الطبراني الكبير: رقم (٨٦٦٧) (٩/ ١٣٦.
(٣) انظر: التصوف طريقا وتجربة ومذهبا، محمد كمال جعفر: ١٥٧.
(٤) رواه البخاري (٤٢٩٤).
(٥) رواه البخاري (٣٩٠٤)، ومسلم (٢٣٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>