للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نؤمن بهم جميعًا. وقال الرسول والمؤمنون: سمعنا يا ربنا ما أوحيت به، وأطعنا في كل ذلك، نرجو أن تغفر -بفضلك- ذنوبنا، فأنت الذي ربَّيتنا بما أنعمت به علينا، وإليك -وحدك- مرجعنا ومصيرنا.

روي عن حكيم ابن جابر، أنه قال: "لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، قال جبريل: إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى قومك. فسل. تعط. فسأل الله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى آخر الآية" (١).

وعن قتادة، قوله: " {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه}، ذكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية، قال: ويحق له أن يؤمن" (٢).

وعن سعيد بن جبير، في قوله: " {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}، إلى قوله: {وإليك المصير}، قال: كان ما قيل لهم، قولوا: آمنا" (٣).

قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: ٢٨٥]، أي: " صدق الرسول بما أوحي إليه من ربه من الكتاب" (٤).

قال القاسمي: " أي صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة: "كان خلقه القرآن" (٥)، والترقي بمعانيه والتحقق" (٦).

قال الثعلبي: " وحّد الفعل على لفظ كلّ، المعنى: كلّ واحد منهم آمن، فلو قال: آمنوا، لجاز لأن (كلّ) قد تجيء في الجمع والتوحيد، فالتوحيد قوله عزّ وجلّ: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: ٤١]، والجمع قوله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ} [الأنبياء: ٩٣]، {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} [النمل: ٨٨] " (٧).

واختلف السادة أهل التفسير في قوله تعالى: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: ٢٨٥]، وذكروا فيه وجهين:

أحدهما: أن "الذي أنزل هو القرآن". قاله القرطبي (٨). وهو قول الجمهور.

والثاني: وقيل هو: القرآن والسنة. قاله العلّامة ابن عثيمين (٩).

وعلى القول الثاني: أن "الرسول آمن بأن القرآن من عند الله أنزله إليه ليبلغه إلى الناس، وآمن بأن ما أوحي إليه من السنة هو من الله عز وجل؛ أوحي به ليبلغه إلى الناس؛ ثم هو أيضاً آمن بما يقتضيه هذا المنزل من قبول، وإذعان؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس تصديقاً بما أنزل إليه، وأقواهم إيماناً بلا شك، وكان أيضاً أعظمهم تعبداً لله عز وجل حتى إنه كان يقوم في الليل حتى تتورم قدماه مع أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر (١٠)؛ وقام معه ابن مسعود رضي الله عنه ذات ليلة يقول: فقام فأطال حتى هممت بأمر سوء؛ قالوا: بم هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «هممت أن أجلس، وأدعه» (١١)؛ لأن الرسول كان يقوم قياماً طويلاً - صلوات الله وسلامه عليه؛ إذاً فهو أقوى الناس إيماناً، وأشدهم رغبة في الخير، وأكثرهم عبادة" (١٢).

وقوله تعالى: {آمن}؛ هو إقرار المستلزم للقبول، والإذعان - لقبول الخبر، والإذعان للحكم، أو لما يقتضيه؛ أما مجرد التصديق، والإقرار فلا ينفع؛ ولهذا كان أبو طالب مقراً ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه على حق؛ لكن لما لم يكن منه قبول وإذعان لم ينفعه هذا الإقرار؛ فالإيمان شرعاً هو الإقرار المستلزم للقبول، والإذعان (١٣).

وقيل: " قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ}، على معنى الشكر، أي صدق الرسول {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} (١٤).

و«الرسول» - كما قال العلماء - هو من أوحي إليه بشرع، وأُمِر بتبليغه؛ هذا الذي عليه أكثر أهل العلم؛ و «النبي» هو الذي لم يؤمر بتبليغه ما لم يدل الدليل على أن المراد به الرسول؛ ففي القرآن الكريم كل من وصف بالنبوة فهو رسول؛ لقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ... } [النساء: ١٦٣] إلى قوله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: ١٦٥]؛ ولقوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} [غافر: ٧٨] (١٥).

قال الثعلبي: " وفي قراءة عليّ وعبد الله: {وآمن المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} " (١٦).

قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: ٢٨٥]، " أي كذلك آمنوا" (١٧).

روي " عن مقاتل ابن حيان، قوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}، فهذا قول، قاله الله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم، وقول المؤمنين. فأثنى الله عليهم لما علم من إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله" (١٨).

قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: ٢٨٥]، أي: الجميع" صدق بالله وملائكته وكتبه" (١٩).

قال القاسمي: " أي الجميع من النبي والأتباع صدَّق بوحدانية الله، وآمن بملائكته وكتبه ورسله" (٢٠).

قال الزجاج: "لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والطلاق والإيلاء والجهاد، ختم السورة بذكر تصديق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين بجميع ذلك، وهو قوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [سورة البقرة: ٢٨٥] " (٢١).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: ٢٨٥]، على وجهين:

أحدهما: {وَكِتابَهُ}، على الواحد بالألف، قرأه ابن عباس وعكرمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف، وفي هذه القراءة وجهان (٢٢):


(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٣٠٧٠): ص ٢/ ٥٧٥.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٣٠٧١): ص ٢/ ٥٧٦.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٣٠٧٢): ص ٢/ ٥٧٦.
(٤) تفسير الطبري: ٦/ ١٢٤.
(٥) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ١٣٩. وهو حديث طويل. يرويه سعد بن هشام بن عامر وفيه يقول، بعد أن استأذن على عائشة قال: فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله. قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قال: فإن خلق نبيّ الله كان القرآن. وفيه وصف جامع لقيامه صلّى الله عليه وسلم وعن وتره على لسان سيدتنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.
(٦) محاسن التأويل: ٢/ ٢٤٠.
(٧) تفسير الثعلبي: ٢/ ٣٠٤.
(٨) أنظر: تفسير القرطبي: ٣/ ٤٢٨.
(٩) أنظر: تفسيره: ٣/ ٤٤٣.
(١٠) راجع البخاري ص ٤١٣، كتاب تفسير القرآن، باب ٢: قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ... )، حديث رقم ٤٨٣٦، وأخرجه مسلم ص ١١٦٩، كتاب صفات المنافقين، باب ١٨: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، حديث رقم ٧١٢٤ [٧٩] ٢٨١٩.
(١١) راجع البخاري ص ٨٨، كتاب التهجد، باب ٩: طول القيام في صلاة الليل، حديث رقم ١١٣٥؛ وصحيح مسلم ص ٨٠٠، كتاب صلاة المسافرين، باب ٢٧: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، حديث رقم ١٨١٥ [٢٠٤] ٧٧٣.
(١٢) تفسير ابن عثيمين: ٣/ ٤٤٣.
(١٣) أنظر: تفسير ابن عثيمين: ٣/ ٤٤٢.
(١٤) تفسير القرطبي: ٣/ ٤٢٥.
(١٥) أنظر: تفسير ابن عثيمين: ٣/ ٤٤٢.
(١٦) تفسير الثعلبي: ٢/ ٣٠٤.
(١٧) محاسن التأويل: ٢/ ٢٤٠.
(١٨) أخرجه ابن أبي حاتم (٣٠٧٣): ص ٢/ ٥٧٦.
(١٩) معاني القرآن للزجاج: ١/ ٣٦٨.
(٢٠) صفوة التفاسير: ١/ ١٦٣.
(٢١) معاني القرآن وإإعرابه: ١/ ٣٦٨. ونقله عنه الواحدي في الوسيط: ١/ ٤٠٩.
(٢٢) أنظر: تفسير الثعلبي: ٢/ ٣٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>