للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن عطية: " والخبر في قوله: يفترون وكفى به إثما مبينا خبر في مضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب، وأن يكتفى لهم بهذا الكذب إثما ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك" (١).

الفوائد:

١ - أن القرآن يحذر من تزكية النفس، بمعنى مدحها والثناء عليها، ولا يظنّ أنه كامل، وأنّه من الأخيار، بل دائماً الإنسان يتّهم نفسَه بالتقصير في حقّ الله تعالى.

٢ - أن تزكية النفس لا تتفق مع أدب المؤمن الذي ينبغي أن يكون دوما في مقام بين الخوف والرجاء، الخوف من أن لا يقبل عمله أو لا يختم له بالصالحات، والرجاء في القبول وحسن الخاتمة (٢).

٣ - أن هناك نوعان من التزكيةٌ (٣):

أحدهما: التزكية المنهيّ عنها، وهي: الإعجاب والمدح للنفس.

والآخر: التزكية المأمور بها، وهي: الإصلاح والتوبة والعمل الصالح: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)}

٤ - لقد تعمّقت خصلة الكذب في اليهود وباءوا بأدنى مراتبها، وأبعدها فساداً وهو الكذب على الله عز وجل الذي لا يخفى عليه خافية.

٥ - أن تزكية النفس لدى أهل الكتاب من أعظم الافتراء على الله، لأن مضمون تزكيتهم لأنفسهم الإخبار بأن الله جعل ما هم عليه حقا وما عليه المؤمنون المسلمون باطلا. وهذا أعظم الكذب (٤).

٦ - جعل تزكيتهم لأنفسهم إثماً مبيناً لأن حقيقة النفس وما فيها من خير وما يختم لها به لا يعلمه إلا الله، فلما تجرءوا وزكوا أنفسهم جعل الله ذلك من الكذب عليه سبحانه، وهكذا هنا الذي يدعي بأن العمل الفلاني جزاءه الجنة أو مغفرة الذنوب، أو أن العمل الفلاني فيه كذا أو كذا من الأجر من دون علم به عن طريق الوحي، فهو من المفترين على الله الكذب وكفى به إثماً مبيناً! (٥).

٧ - إن في قوله: {وكفى به إثماً مبيناً} من تعظيم الذنب وتهويله ما لا يخفى، أي: كفى بالافتراء وحده وبالأولى إذا انضم إلى التزكية، والتنكير في إثماً للتشديد (٦).

٨ - أن الآية جاءت بعد التنديد باليهود لتزكيتهم أنفسهم بليغة المدى حيث انطوى فيها تكذيب لزعمهم أنهم أحباء الله وأصفياؤه والحظوة لديه وتزكيتهم لأنفسهم نتيجة لهذا الزعم. وتقرير لكون ذلك منهم افتراء على الله تعالى.

٩ - أن الكذب مطلقاً هو إثم، والكذب المبين: هو الكذب على الله.

القرآن

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١)} [النساء: ٥١]

التفسير:

ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك اليهود الذين أُعطوا حظًّا من العلم يصدقون بكل ما يُعبد من دون الله من الأصنام وشياطين الإنس والجن تصديقا يحملهم على التحاكم إلى غير شرع الله، ويقولون للذين كفروا بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الكافرون أقْومُ، وأعدلُ طريقًا من أولئك الذين آمنوا؟

في سبب نزول الآيات [٥١ - ٥٢]:

أخرج الطبري وابن ابي حاتم (٧)، وغيرهما (٨)، عن ابن عباس قال: "لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت حَبْر أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم. قالوا: ألا ترى إلى هذا الصُّنبور المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السِّدانة وأهل السِّقاية؟ قال: أنتم خير منه. قال:


(١) المحرر الوجيز: ٢/ ٦٦.
(٢) انظر: موسوعة الفرق: ٨/ ٢٩٨.
(٣) انظر: إعانة المستفيد، صالح بن فوزان: ٢/ ٢٤٦.
(٤) انظر: تفسير السعدي: ١٨٢.
(٥) انظر: موسوعة الفرق: ٧/ ٢٧١.
(٦) انظر: فتح البيان في مقاصد القرآن: ٣/ ١٤٦.
(٧) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٥٤٤٠): ص ٣/ ٩٧٣ - ٩٧٤.
(٨) عزاه ابن كثير في "تفسيره: ٢/ ٣٣٤ إلى الإمام أحمد وليس هو في "مسنده"، وعزاه الهيثمي في "المجمع" "٧/ ٦" إلى الطبراني، وأخرجه ابن حبان انظر "موارد الظمآن" "ص ٤٢٨"، وعزاه السيوطي إلى عبد الرزاق انظر "الدر" "٢/ ٥٦٣" ..

<<  <  ج: ص:  >  >>