للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال مجاهد: " يهود تقول ذلك، يقولون: قريش أهدى من محمد وأصحابه" (١).

قال مقاتل: " {سَبِيلًا}، يعنى: طريقا" (٢).

قال الشوكاني: " أي: يقول اليهود لكفار قريش: أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد {سبيلا}، أي: أقوم دينا، وأرشد طريقا" (٣).

قال الزجاج: " وهذا برهان ودليل على معاندة إليهود لأنهم زعموا إن الذين لم يصدقوا بشيء من الكتب وعبادة الأصنام، أهدى طريقا من الذين يجامعونهم على كثير مما يصدقون به، وهذا عناد بين" (٤).

قال الطبري: أي: " ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر أقوم وأعدل من الذين صدَّقوا الله ورسوله وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم طريقًا، وإنما ذلك مَثَلٌ، ومعنى الكلام: أن الله وصف الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، بأنهم قالوا: إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وأن دين أهل التكذيب لله ولرسوله، أعدل وأصوبُ من دين أهل التصديق لله ولرسوله. وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف، وأنه قائل ذلك" (٥).

قال السعدي: " حملهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال: {ويقولون للذين كفروا} أي: لأجلهم تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} أي: طريقا. فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم! كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟ . هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقل أحد من الجهلاء، فهل يفضل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات، وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله ورسله وكتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، والإخلاص لله في السر والإعلان، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، والصدق في جميع الأقوال والأعمال، فهل هذا إلا من الهذيان، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق، وهذا هو الواقع" (٦).

الفوائد:

١ - من صفات اليهود: الإيمان بالجبت والطاغوت، وتفضيل دين المشركين على دين المسلمين.

٢ - إيمان اليهود ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله.

٣ - أن التصديق بالتكهن من الإيمان بالجبت والطاغوت.

٤ - أن صناعة التنجيم، التي مضمونها الإحكام والتأثير، -وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية أو التمزيج بين القرى الفلكية والغوائل الأرضية -: صناعة محرمة بالكتاب والسنة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين، قال تعالى: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} [طه: ٦٩]. وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} [النساء: ٥١] (٧).

القرآن

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢)} [النساء: ٥٢]

التفسير:

أولئك الذين كَثُرَ فسادهم وعمَّ ضلالهم، طردهم الله تعالى من رحمته، ومَن يطرده الله من رحمته فلن تجد له من ينصره، ويدفع عنه سوء العذاب.

سبب نزول الآية:

أخرج ابن ابي حاتم عن قتادة: " قتادة قال: ذكر لنا هذه الآية، نزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، رجلين من اليهود من بني النضير، لقيا قريشا بالموسم، فقال لهم المشركون: نحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ فأنزل الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} " (٨).

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء: ٥٢]، أي: "أولئك طردهم الله وأبعدهم عن رحمته" (٩).

قال الزجاج: " أي الذين باعدهم من رحمته" (١٠).

قال السعدي: " أي: طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته" (١١).

قال السمرقندي: " أي خذلهم وطردهم الله من رحمته، ويقال: عذبهم الله بالجزية" (١٢).

قوله تعالى: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: ٥٢]، أي: " ومَن يطرده الله من رحمته فلن تجد له من ينصره، ويدفع عنه سوء العذاب" (١٣).

قال البيضاوي: " {نَصِيرًا}، يمنع العذاب منه بشفاعة أو غيرها" (١٤).

قال السعدي: " أي: يتولاه ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره، وهذا غاية الخذلان" (١٥).

قال القاسمي: " أي: ومن يبعده الله عن رحمته، فلن تجد له نصيرا يدفع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويالا بشفاعة ولا بغيرها" (١٦).

قال الزجاج: " أي من يباعد الله من رحمته فهو مخذول في دعواه وحجته ومغلوب، واليهود خاصة أبين خذلانا في أنهم غلبوا من بين جميع سائر أهل الأديان، لأنهم كانوا أكثر عنادا، وأنهم كتموا الحق وهم يعلمونه" (١٧).

قال الرازي: " فبين أن عليهم اللعن من الله، وهو الخذلان والإبعاد، وهو ضد ما للمؤمنين من القربة والزلفى، وأخبر بعده بأن من يلعنه الله فلا ناصر له، كما قال: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: ٦١]، فهذا اللعن حاضر، وما في الآخرة أعظم، وهو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، وفيه وعد للرسول صلى الله عليه وسلم بالنصرة وللمؤمنين بالتقوية، بالضد على الضد، كما قال في الآيات المتقدمة: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: ٤٥].

واعلم أن القوم إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم يجري مجرى المكابرة، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله! ومن كان دينه الإقبال بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال" (١٨).

الفوائد:

١ - أن غلبة الهوى على اليهود وتعصبهم الأعمى أدت إلى أن يحالفوا الكفار ويمالئوهم في القول والعمل، فيسجدوا لأصنامهم، ويزكوا أفعالهم، ويقولوا إن طريقهم هو طريق الهداية، وطريق أهل التوحيد لَا هداية فيه! بسبب هذا لعنهم الله تعالى بأن طردهم من رحمته، فكتب عليهم بُغض الناس في الدنيا، والذل والمقت فيها، وعذاب الله تعالى في الآخرة.

٢ - أن الحكم الذي أصدروه اليهود، حكم مبنىّ على الزور والبهتان، فأشار الله إليهم، بهذا الحكم القائم على العدل والردع، لهذا الجرم الذي اقترفوه، وهذا الضلال الذي غرقوا فيه، وأغرقوا غيرهم معه، فقال: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}، واللعنة دائما حيث كانت، فهى لليهود، وعلى اليهود.

القرآن


(١) أخرجه ابن ابي حاتم (٥٤٥٨): ص ٣/ ٩٧٧.
(٢) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٣٧٩.
(٣) فتح القدير: ١/ ٥٥٢.
(٤) معاني القرآن: ٢/ ٦١.
(٥) تفسير الطبري: ٨/ ٤٦٦.
(٦) تفسير السعدي: ١٨٢ - ١٨٣.
(٧) انظر: شرح العقيدة الطحاوية: ٢/ ٧٦٢.
(٨) تفسير ابن أبي حاتم (٥٤٥٩): ص ٣/ ٩٧٧، والآيتان [٥١، و ٥٢]، في السياق نفسه.
(٩) انظر: صفوة التفاسير: ٢٥٨.
(١٠) معاني القرآن: ٢/ ٦٢.
(١١) تفسير السعدي: ١٨٢.
(١٢) تفسير السمرقندي: ١/ ٣٠٩.
(١٣).التفسير الميسر: ٨٧.
(١٤) تفسير البيضاوي: ٢/ ٧٩.
(١٥) تفسير السعدي: ١٨٢.
(١٦) محاسن التأويل: ٣/ ١٧٢.
(١٧) معاني القرآن: ٢/ ٦٢.
(١٨) مفاتيح الغيب: ١٠/ ١٠١ - ١٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>