للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعالى قرية، كما في قوله تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم} [محمد: ١٣] " (١).

وقد اختلفوا في الأمن المسؤول في هذه الآية على وجوه (٢):

أحدها: أنه سأله الأمن من القحط، لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع.

وضعّفه أبو حيان فقال: " فهي أكثر بلاد الله قحطاً وجدباً" (٣).

الثاني: أنه سأله الأمن من الخسف والمسخ.

الثالث: وقال بعض المفسرين: أي آمناً مَن فيه؛ لأن البلد نفسه لا يوصف بالأمن، والخوف، فـ (البلد) (٤) أرض، وبناء؛ وإنما الذي يكون آمناً: أهلُه؛ أما هو فيكون أمْناً.

قلت: وهذا ضعيف، والذي ينبغي هو أن يبقى على ظاهره، وأن يكون البلد نفسه آمناً؛ وإذا أمِنَ البلد أمِن مَن فيه وهو أبلغ؛ لأنه مثلاً لو جاء أحد، وهدم البناء ما كان البناء آمناً، وصار البناء عرضة لأن يتسلط عليه من يُتلفه؛ فكون البلد آمناً أبلغ من أن نفسره بـ (آمناً أهله)؛ لأنه يشمل البلد، ومن فيه؛ ولهذا قال تعالى: {وارزق أهله}؛ لأن البلد لا يرزق (٥).

الرابع: أنه سأله الأمن من القتل، وهو قول أبو بكر الرازي، واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولا، ثم سأله الرزق ثانيا، ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكرارا فقال في هذه الآية: {رب اجعل هاذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات} وقال في آية أخرى: {رب اجعل هاذا البلد امنا} ثم قال في آخر القصة: {ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع} إلى قوله: {وارزقهم من الثمرات} [إبراهيم: ٣٧].

وقد أخرج الطبري عن قتادة قال: "ذكر لنا أن الحرم حُرِّم بحياله إلى العرش، وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط. قال الله له: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمان الطوفان - حين أغرق الله قوم نوح - رفعه وطهره، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم أثرا، فبناه على أساس قديم كان قبله" (٦).

الخامس: وقيل: أنه سأله الأمن من الجبابرة.

وضعّفه أبو حيان فقال: " فالواقع يرده، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا، كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج بن يوسف، والقرامطة، وغيرهم" (٧).

واختلف العلماء في مكة هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم أم كانت قبله كذلك، على ثلاثة أفوال (٨):

أحدها: أنه لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه، منذ خلقت السموات والأرض.

أخرج الطبري عن شريح الخزاعي أنه قال: " لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: " يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد


(١) تفسير ابن عثيمين: ٢/ ٥١.
(٢) انظر: مفاتيح الغيب: ٤/ ٤٨.
(٣) البحر المحيط: ١/ ٣٣٢.
(٤) قال الرازي: قوله تعالى (بَلَدًا آمِنًا) يحتمل وجهين:
أحدهما: مأمون فيه كقوله تعالى: {فى عيشة راضية} (القارعة: ٧) أي مرضية.
والثاني: أن يكون المراد أهل البلد كقوله: {واسئل القرية} (يوسف: ٨٢) أي أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد. (انظر: تفسيره: ٤/ ٤٨).
(٥) انظر: تفسير ابن عثيمين: ٢/ ٢٣.
(٦) تفسير الطبري (٢٠٢٦): ص ٢/ ٤٥.
(٧) البحر المحيط: ١/ ٣٣٢.
(٨) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٤٥ - ٥١، وتفسير القرطبي: ٢/ ١١٧ - ١١٨.وتفسير الرازي: ٤/ ٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>