للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عليَّ؛ فقد كررتُ لك ما قصدتُه تكريرًا لا يخفى على الفَطِن، فهل طلبتُ من حامل الحجةِ أن يقوم بين ظهرانَيِ الناس قائلًا: «اجتنبوا كذا من الرأي، اتبعوا كذا منَ الكتاب والسُّنة»، صارخًا بذلك في المحافل، ناطقًا به في المشاهد، مع علمِه بتراكُم سحائب الجهل، وتلاطُم أمواجِ بحار التعصُّب، وإظلامِ أُفُقِ الإنصاف، واكْفِهْرَارِ (١) وجهِ الاسترشاد؟! فإن هذا وإن كان مُسقِطًا لِمَا افترضه اللَّهُ على مَنْ استخلصه (٢) مِنْ عباده لحَمْل حُجتِه وإبلاغ شريعته، لكنْ لكل عالِمٍ قدوةٌ بأنبياء اللَّه، وأسوةٌ بمن أرسله من رُسُله؛ فقد كانوا عليهم الصلاة والسلام يدبِّرون عبادَ اللَّه بتدبيرات، فيها من الرِّفقِ واللُّطفِ وحُسنِ المَسلك ما لا يخفى على أهل العلم؛ فإن نبيَّنا قد تألَّف رؤساءَ المشركين وهم إذ ذاك حديثو عهدٍ بجاهلية، وترك المهاجرين والأنصارَ من الغنيمة وسيوفُهم تقطُرُ من دماء المؤلَّفين (٣) وأتباعِهم ومَن يُشاكِلُهم فيما كانوا عليه.

وصحَّ عنه أنه ترك مَنْ كان منافقًا على نِفاقه، وعَصَمهم بظاهر كلمة الإسلام، ولم يَكشفهم ويُتلِفْ ما عندهم بعد أن ظَهر منهم ما ظهر من النفاق، كعبد اللَّه بن أُبىِّ بن سَلول رأس المنافقين، وقال: «لا يتحدَّثُ الناسُ أن محمَّدًا يقتُلُ أصحابَه» (٤).


(١) اكفهرار: تغيُّر وعبوس.
(٢) استخلصه: اختاره واجتباه.
(٣) المؤلَّفين بفتح اللام: الكفار الذين يتألفهم المسلمون كي يُسلِموا، أو: حديثو العهد بالإسلام.
(٤) صحيح: رواه أحمد (٣/ ٣٥٤)، والبخاري (٣٥١٩)، ومسلم (٢٥٨٤)، والترمذي (٣٣١٥)، والنسائي في «الكبرى» (١١٥٩٩).

<<  <   >  >>