للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإن هذا شيءٌ لم يأذنِ اللَّهُ به، وأمرٌ لم يسوِّغْه لأحدٍ من عبادِه.

ولا يَغُرَّك ما استَدلَّ به القائلون بجوازِ التقليد؛ فإنه لا دلالةَ في شيءٍ مما جاؤوا به على محل النزاع، وقد أوضحنا ذلك في مؤلَّفٍ مستقلٍّ، وهو «القول المفيد في حكم التقليد» (١)، فارجع إليه إنْ بقي في صدرك حرجٌ؛ فإنك تقفُ فيه على ما يُريحك، ويَنثلجُ به صدرُك، ويَفرحُ عنده رُوعُك (٢).

[كيف يُحقِّقُ طالبُ العلم الْمطالبَ السابقة؟]:

فإن قلتَ: وكيف يَقتدِرُ على تصوُّر ما أرشدتَ إلى تصوُّرِه، ويتمكنُ من توطينِ نفسِه على ما دللتَ عليه مَنْ أراد الشروعَ في العلم بادئَ بَدءٍ، وهو إذ ذاك لا يدري ما الشرعُ، ولا يتعقَّلُ الحُجة، ولا يعرفُ الإنصاف، ولا يهتدي إلى ما هديتَه إليه (٣)؛ إلَّا بعد أن يتمرَّن ويُمارسَ، ويكونَ له من العلم ما يفهمُ به ما تريدُ منه؟!.

قلتُ: ما أرشدتُ إليه يُعرف بمجرد العقل، وسلامةِ الفطرة، وعدمِ ورود ما يردُ عليها ممَّا يغيرُها، وعلى فرضِ ورودِ شيءٍ من المُغيِّرات عليها كاعتقاد حَقِّيةِ التقليد ونحوه، فارتفاعُ ذلك يحصُلُ بأدنى تنبيه؛ فإن هذا أمرٌ يقبله الطبعُ بأولِ وهْلةٍ لمطابقته للواقع وحَقِّيته.

وكلُّ ما كان كذلك فهو مقبول، والطبائعُ تنفعلُ له انفعالًا بأيسر عملٍ وأقلِّ إرشاد، وهذا أمرٌ يعلمه كلُّ أحد، ويشتركُ في معرفته أفرادُ الناسِ على اختلاف طبقاتِهم، ولهذا نبَّه عليه الشارعُ (٤)، فقال: «كلُّ مولودٍ يولَدُ


(١) انظر: «الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني» (٥/ ٢١٦٣).
(٢) أي: أرشدته إليه.
(٣) الرُّوْع بضم الراء: النفس.
(٤) قال العلَّامة بكر أبو زيد : «في مادة «شرع» من كتب اللغة مثل: «لسان العرب»، و «القاموس»، وشرحه، و «تاج العروس»: أن «الشارع» في اللغة هو العالِمُ الربَّاني العاملُ المعلِّم. وقاله ابن الأعرابي. وقال الزَّبيدي أيضًا في «تاج العروس»: «ويطلق عليه لذلك، وقيل: لأنه شَرَع الدين؛ أي: أظهره وبينه» ا هـ. وفي «فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» (٧/ ٤١٣) قال عن النبي : «صاحب الشرع». وأما في لغة العلم الشرعي؛ فإن هذا المعنى اللغوي لا تجدُ إطلاقه في حقِّ النبي ، ولا في حق عالِمٍ من علماء الشريعة المطهرة؛ فلا يُقال لبشر: «شارع، ولا مشرِّع». وفي نصوص الكتاب والسنة إسنادُ التشريع إلى اللَّه تعالى، قال اللَّهُ تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ … ﴾ [الشورى: ١٣]. وعن ابن مسعود قال: «إن اللَّهَ شرع لنبيِّكم سُننَ الهدى». رواه مسلم وغيره. لهذا فإنَّ قَصْرَ إسنادِ ذلك إلى اللَّه أَخَذ في كتب علماء الشريعة على اختلاف فنونِهم صفة التقعيد؛ فلا نرى إطلاقه على بشرٍ حسْبَ التتبُّع، ولا يلزم من الجواز اللغوي الجوازُ الاصطلاحي. وإنه بناءً على تنبيهٍ من شيخنا عبد العزيز بن باز؛ على أن إطلاق لفظ «المشرِّع» على من قام بوضع نظام … غير لائق صدر قرار مجلس الوزراء رقم (٣٢٨ في ١/ ٣/ ١٣٩٦ هـ) بعدم استعمال كلمة «المشرِّع» في الأنظمة ونحوها. واللَّهُ أعلم. وفي «فتح الباري» (٦/ ٣٤٣) قال: «نقل إمام الحرمين في «الشامل» عن كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدَرية، أنهم أنكروا وجودهم (أي وجود الجن) رأسًا، قال: ولا يُتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرِّعين، وإنما العجبُ من المشرِّعين مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة» اه. فلينظر. واللَّهُ أعلم» انتهى. «معجم المناهي اللفظية» (٥٠٨ - ٥٠٩).

<<  <   >  >>