للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

صحةَ ما قلتُه إلا مَنْ عرفه حقَّ معرفته، وقد يُعرفُ الشيءُ ليُجتَنبَ ويُحذَر، ويُعرف الشرُّ لا للشر؛ لكن لتوقِّيه، ومن لا يعرفُ الشرَّ يقعْ فيه.

[(٣) الاستحسان]

وأما الاستحسان، فاعلم أنهم رسَموه (١) بأنه: «دليلٌ يَقتدحُ في نفس المجتهد، ويعسُر عليه التعبيرُ عنه» (٢).

وأنت لا يخفى عليك إن بقي لك نصيبٌ من فهم، وحظٌّ من إنصاف أن اللَّه لم يتعبَّدْ أحدًا من عباده بدليلٍ يَستدلُّ به أحدٌ من علماء الأمة، ويمكنُه التعبيرُ عنه، وإبرازُه من القوةِ إلى الفعل، إلَّا إذا كان صحيحًا تقوم به الحجة؛ فكيف يتعبَّدُهم بما انقدح في نفْسِ فردٍ من أفرادهم على وجهٍ لا يمكنُه التعبيرُ عنه، ولا إبرازُه إلى الخارج؟ فإن هذا الذي انقدح (٣) في نفسه، لا ندري ما هو ولا كيف هو! فكيف يكونُ حُجةً على أحدٍ من الناس، وقد عَجَز صاحبُه عن بيانه وعسُرت عليه ترجمته؟.

فيا لَلَّهِ العجبُ من هذا الهذَيان! وكيف استجاز قائلُه أن يحكم عليه، وأنه


(١) أي: تصوَّروه وعرَّفوه.
(٢) فحاصلُ هذا التعريف أن الاستحسان هو: «ما رآه العالِمُ حسنًا من الناحية العقلية»! وهذا باطلٌ بلا ريب، لأن العقولَ تتفاوتُ في كثير من الأمور، وعليه يُخرَّجُ قولُ الإمام الشافعي : «مَنْ استحسن فقد شَرَع». وأما المعنى الصحيح المتفق عليه للاستحسان فهو: «ترجيحُ دليل على دليل»، أو «العملُ بالدليل الأقوى أو الأحسن». وإذ قد تبيَّن هذا فاعلم هداك اللَّه للحق أنَّ مَنْ ذم الاستحسان فإنما أراد به المعنى الباطل وهو ما يقصده الإمام الشوكاني هنا، ومَن مدحه فإنما أراد به المعنى الحق. انظر: «معالِم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة»، للشيخ الجيزاني (٢٣٠).
(٣) انقدح: اشتعل وبدا.

<<  <   >  >>