للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[السبب الثاني لتَرْك الإنصاف: حُبُّ الشرف والْمال]:

ومِن جُملةِ الأسباب التي يتسبَّبُ عنها تركُ الإنصاف، ويَصدُرُ عنها البعدُ عن الحق، وكتمُ الحُجة، وعدمُ ما أوجبه اللَّهُ من البيان: حُبُّ الشرف والمال، اللذين هما أعدى على الإنسان من ذِئبينِ ضاريَينِ (١) كما وَصف ذلك رسولُ اللَّه (٢)؛ فإن هذا هو السببُ الذي حرَّف به أهلُ الكتاب كُتبَ اللَّهِ المنزَّلةَ على رُسُله، وكتَموا ما جاءهم فيها من البيِّنات والهدى، كما وقع من أحبار اليهود، وقد أخبرنا اللَّهُ [بذلك] في كتابه العزيز (٣)، وأخبرنا به رسولُ اللَّه في الثابت عنه في «الصحيح» (٤).


(١) ضارِيَينِ: شرسين فتَّاكين.
(٢) ثبت عن كعب بن مالك الأنصاري أن رسول اللَّه قال: «ما ذِئبانِ جائعان أُرسلا في غَنم بأفسدَ لها مِنْ حِرصِ المَرْءِ على المالِ والشَّرفِ لدِينه». معناه: أننا لو تركنا ذئبَين شَرِسَين في زريبةِ غنمٍ، لأهلكا الغنمَ والزريبةَ أعظمَ الإهلاك؛ فكذلك حِرصُ الرجل على حُب المال والسُّمعةِ أعظمُ إفسادًا لدينه من هاذين الذئبين للغنمِ والزريبة. والحديث صحيح: رواه أحمد (٣/ ٤٥٦)، والترمذي (٢٣٧٦)، والنسائي في «الكبرى» كما في «تحفة الأشراف» (٨/ ٣١٦)، وابن حِبَّان في «صحيحه» (٣٢٢٨)، وقال الإمام الترمذي: «حسن صحيح»، وصحَّحه الشيخ شعيب الأرنؤوط، والشيخ الألباني.
(٣) كما قال ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩)﴾ [البقرة]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)﴾ [البقرة]، وقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧)﴾ [آل عمران].
(٤) لعل الإمامَ يُشيرُ إلى ما ثبت عن عبد اللَّه بن عمر قال: إن اليهود جاؤوا إلى رسول اللَّه ، فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأةً قد زَنيَا، فقال لهم: «كيف تفعلون بمن زنى منكم؟». قالوا: نُحمِّمُهما (أي: نطلِي وجوههما بالفحم)، ونضربُهما، فقال: «لا تَجِدُون في التوراة الرجم؟». فقالوا: لا نجد فيها شيئًا. فقال لهم عبد اللَّه بن سلَام: كذبتم؛ ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣)﴾ [آل عمران]، فوضع مِدْراسُها الذي يُدرِّسُها منهم كَفَّه على آية الرجم، فطفق يقرأُ ما دون (أي: ما قبلَ) يدِه وما وراءها، ولا يقرأ آيةَ الرجم، فنزع [عبدُ اللَّه بن سلام] يدَه عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم. فأَمر رسول اللَّه بهما فرُجِما قريبًا من حيث موضع الجنائز عند المسجد؛ فرأيت صاحبها يجنأُ (أي: ينحني) عليها يقيها الحجارة. والحديث صحيح: رواه أحمد (٢/ ٥)، والبخاري (١٣٢٩) و (٣٦٣٥)، ومسلم (١٦٩٩)، وأبو داود (٤٤٤٦)، والترمذي (١٥٠١)، والنسائي في «الكبرى» (٧١٧٥، ٧١٧٨)، وابن ماجه (٢٥٥٦).

<<  <   >  >>