للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإذا انتهى إليه ما هم فيه من تلك اللذاتِ والخلاعات، وَجَد في نفسه بحُكم الشباب، وحداثةِ السن، ومَيلِ الطبع إلى ما هناك مرارةً، واحتاج إلى مجاهدةٍ يَرُدُّ بها جامِحَ طبعِه، ومتفلِّتَ هواه، ومتوثِّبَ نشاطِه، ولا يتمُّ له ذلك إلَّا بإلجام شهوتِه بلِجام الصبر، ورباطِها بمَربطِ العِفة.

[صَبْرًا يا طالب الْمَعالي]:

وكيف لا يجدُ مرارةَ الحبس للنفس مَنْ كان في زاويةٍ من زاويا المساجد، ومقصورةٍ من مقاصِرِ المدارس، لا ينظرُ إلَّا في دَفتر، ولا يتكلمُ إلا في فنٍّ من الفنون، ولا يتحدثُ إلَّا إلى عالِمٍ أو متعلِّم! وأترابُه ومعارفُه من قرابته وجيرانِه وذَوِي سِنه وأهلِ نشأته وبلدِه يتقلَّبون في رافهِ العيش ورائقِ القصف (١).

وإذا انضمَّ لذلك الطالبِ إلى هذه المرارةِ الحاصلةِ له بعَزفِ النفس عن شهواتِها مرارةٌ أخرى، هي إعوازُ الحال (٢)، وضِيقُ المكسب، وحقارةُ الدخْل، فإنه لابد أن يَجِدَ من المرارةِ المتضاعِفة ما يَعظُمُ عنده موقعُه، لكنه يذهب عنه ذلك قليلًا قليلًا.

فأولُ عُقدةٍ تنحلُّ عنه مِنْ عُقَدِ هذه المرارة: عندما يتصورُ ما يؤول به الأمرُ وينتهي إليه حالُه من الوصول إلى ما قد وَصل إليه مَنْ يَجِدُه في عصره من العلماء، ثم تنحلُّ عنه العقدةُ الثانية بفَهم المباحث، وحِفظِ المسائل، وإدراكِ الدقائق؛ فإنه عند ذلك يجدُ من اللذةِ والحلاوةِ ما يَذهَبُ بكل مرارة.

ثم إذا نال مِنْ المعارف حظًّا، وأحرَزَ منها نصيبًا، ودخل في عِدادِ أهل


(١) القَصْف: اللهو واللعب.
(٢) إعواز الحال: شدة الفقر.

<<  <   >  >>