للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العلم، كان مُتقلبًا في اللذات النفسانية التي هي اللذاتُ بالحقيقة، ولا يَعدِمُ عند ذلك من اللذات الجُسمانيةِ ما هو أفضل وأَحلَى من اللذات التي يتقلَّبُ فيها كلُّ مَنْ كان مِنْ أترابه.

وهو إذا وازَنَ بين نفسِه الشريفة وبين فردٍ من معارفِه الذين لم يشتغلوا بما اشتغل به، اغتَبط (١) بنفسه غايةَ الاغتباط، ووَجد من السرور والحُبور ما لا يُقادَرُ قَدْرُه؛ هذا باعتبار ما يجدُه من اللذةِ النفسانيةِ عندما يجدُ نفسه عالمةً ونفسَ معارفه جاهلةً.

ويزدادُ ذلك بما يحصُلُ له من لوزام العلم؛ من الجلالة، والفخامة، وبُعدِ الصِّيت، وعِظَمِ الشهرة، ونَبالةِ الذِّكر، ورِفعةِ المَحِلِّ، والرجوع إليه في مسائل الدين، وتقديمه على غيره في مطالب الدنيا، وخضوعِ مَنْ كان يُزري عليه، ويَستخفُّ بمكانِه من بني عصره، فإذا جَمَعهم مجلسٌ من مجالس الدنيا، كانوا له بمنزلةِ الخدم، وإن كان على غايةٍ من الإفلاس والعَدم (٢).


(١) اغتبط: سَعِد وفَرِح.
(٢) يقول العلَّامة أبو إسحاقَ الشاطبي : «كلُّ علمٍ شرعيٍّ؛ فطلبُ الشارعِ له إنما يكونُ من حيثُ هو وسيلةٌ إلى التعبُّد به للَّهِ تعالى، فإنْ ظَهر فيه اعتبارُ جهةٍ أخرى فبالتبعِ والقصدِ الثاني؛ لا بالقصد الأول … »، ثم ذكر الأدلةَ على هذه القاعدة الجليلة؛ ثم قال: «ولا يُنْكِرُ فضلَ العلمِ في الجُملةِ إلا جاهلٌ، ولكنْ له قصدٌ أصليٌّ وقصدٌ تابعٌ؛ فالقصد الأصلي ما تقدَّم ذكره [أي: كونه عبادة للَّهِ ]. وأما التابع، فهو الذي يذكرُه الجمهورُ من كونِ صاحبه شريفًا وإن لم يكن في أصله كذلك؛ وأن الجاهل دنيءٌ وإن كان في أصله شريفًا، وأن قوله [أي: العالِم] نافذٌ في الأشعارِ والأبشار، وحُكمَه ماضٍ على الخلقِ، وأن تعظيمَه واجبٌ على جميع المكلَّفين، إذ قام لهم مقامَ النبي ؛ لأن «العلماءَ وَرَثةُ الأنبياء»، وأن العلمَ جمالٌ ومالٌ ورتبةٌ لا توازيها، وأهله أحياءٌ أبدَ الدهر … إلى سائر ما له في الدنيا من المناقب الحميدة والمآثرِ الحسنةِ والمنازلِ

<<  <   >  >>