للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الطلبة لديَّ، وأخذُهم عنِّي، وتعدُّدُ دُروسهم عندي ليس لي فيه حيلةٌ، ولا هو من جهتي؛ فكان هذا الصنعُ منهم يحملُني على مُجاوبتهم بما لا يُعجِبُني بعدَ الصَّحْو من سُكر الحَدَاثة (١) والقيامِ من رَقْدةِ الشباب، لا لكونه غيرَ حقٍّ أو ليس بصواب، بل لكونِه فيه من سِهام الملام وصوارمِ الخصام ما لا يُناسِبُ هذا المَقام (٢).

فإذا كان هذا في المشترِكين في التدريس والإفتاء وهما خارجان عن مناصب الدنيا، لأنهما في ديارنا لا يُقابَلان بشيءٍ من الدنيا لا من سلطانٍ ولا غيرِه من نوع الإنسان؛ فما بالُك بالرئاسات التي لها مدخلٌ في الدين والدنيا، أو التي هي خاصةٌ بالدنيا متمحِّضةٌ لها (٣)! فإنه لا شك أن التنافس بين أهلها أهمُّ من الرئاسات الدينية المحضة التي لم تُشَبْ بشيءٍ من شوائب الدنيا (٤).

فينبغي للمنصِف ألَّا يَغفُلَ عن هذا السبب؛ فإن النفسَ قد تنقبضُ عن كلامِ مَنْ كان منافِسًا في رُتبة، معارِضًا في فضيلة وإن كان حقًّا؛ وقد يحصُل مع الناظر فيه زيادةٌ على مجردِ الانقباض؛ فيتكلمُ بلسانه، أو يحرِّرُ بقلمه ما فيه معارضةٌ للحق ودفعٌ للصواب، فيكون مؤثِرًا لحَميَّةِ الجاهلية وعَصَبيةِ الطاغوتِ على الشريعة المطهَّرة، وكفى بِهذا؛ فإنه من الخُذلان


(١) أي: بعد التيقُّظ من فَورةِ وحَمَاس الشباب.
(٢) وهذا من أدب المصنف وإنصافه أن يعترف أنه كان عليه ضبط نفسه أكثر في التعامل مع المخالفين، وكما نلاحظ فإن المصنف لم يعتذر عن الحق الذي يعتقده، وإنما اعتذر شدة كلامه وصلابةِ طريقته.
(٣) متمحضة لها: خالصة غير مشوبة.
(٤) وما حال المتنافسين على الدنيا إلا كحالِ المتنافسين على شرب ماءِ البحر؛ كلما ازدادوا شربًا ازدادوا عطشًا!.

<<  <   >  >>