ما بُني على غير أساس فهو عرضةٌ للانهيار في أيِّ لحظة، ومن ثَمَّ كان أول ما أوصى به ﵀ إخوانَه أن يصحِّحوا النية لرب العالمين ﷿، ويكون مُبتغاهم وغايةُ مناهم نيلَ رضوانه ونشرَ الخير بين عباده.
ثم عرَّج ﵀ بعد ذلك على أمرٍ لا يقلُّ أهميةً، وهو بيانُ أن الغاية من العلم هو العملُ به؛ فليس العلمُ هدفًا في حدِّ ذاتِه، وإنما هو وسيلةٌ لمَا هو أسمى وأعلى وأجلُّ، وهو رضوانُ اللَّهِ تعالى والفوزُ بالدرجات العُلا، وهذا يقتضي من طالبِ العلم بذلَ الجهد في العمل بِهذا العلم الشريف، مع القيام بتبليغهِ لعباده، وبِهذا يتمُّ الإخلاص وتُنال سعادةُ الدارين.
وإذا تمَّ الإخلاصُ للَّهِ تعالى حقًّا فسوف يدرك طالبُ العلم قاعدةً أصيلةً في رحلته مع العلم، وهو أنه لا يدعُو لنفسه، ولا لأشياخِه وأشياعِه؛ وإنما هو قيامٌ بالعبودية للَّهِ رب العالمين ﷻ؛ وهذا معناه أن العلمَ الشرعيَّ لا مدخلَ للعصبيةِ الهوجاء فيه، ولا يتعلقُ بأهواء النفوس بحالٍ من الأحوال؛ بل لابد في طريق الطلب من الإنصاف والتجرد واتباع الحق أينما كان، أمَّا عند انقلاب الموازين واختلاطِ المفاهيم، فسوف يَنسى طالبُ العلم لماذا يتعلم، وما الذي ينبغي عليه أن يفعلَه في هذا الطريق الشريف (١).
وهذا أدَّى بالمصنِّفِ ﵀ إلى أن يَشْرعَ في بيان أسباب ضياع الإنصاف والتعلُّقِ بأذيال التعصُّبِ للآراء والأشخاص؛ فسَرَد ما يقاربُ اثني عشَرَ سببًا حولَ هذه الفتنةِ المؤلمةِ التي أوقعت المشاحناتِ والمصادمات بين الناس،
(١) ولا أنسى أن أوصي إخواني أن يداوموا على مطالعة كتاب «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع»، للحافظ الخطيب البغدادي ﵀، وقد قمت بخدمته بفضل ربي ﷿ فحذفت أسانيده ومكرراتِه وبيَّنت معانيَه، وخرجت أحاديثه، وعلَّقت عليه بما تيسر، وقد صدر عن دار ابن الجوزي العامرة، وللَّهِ تعالى الحمد والمنَّة.