للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن الجوزي في فكرتهم عن وجود الخالق: "قد أوهم إبليس خلقًا كثيرًا أنه لا إله ولا صانع، وأن هذه الأشياء كانت بلا مكوّن" (١). ثم رد عليهم بقوله: "وهؤلاء لما لم يدركوا الصانع بالحسّ ولم يستعملوا في معرفته العقل جحدوه. وهل يشك ذو عقل في وجود صانع؟! فإن الإنسان لو مر بقاع ليس فيه بنيان ثم عاد فرأى حائطًا مبنيًا علم أنه لابد له من بانٍ بناه، فهذا المهاد الموضوع، وهذا السقف المرفوع، وهذه الأبنية العجيبة والقوانين الجارية على وجه الحكمة، أما تدل على صانع، وما أحسن ما قاله أحد العرب: إن البعرة تدل على البعير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على اللطيف الخبير، ثم لو تأمل الإنسان نفسه لكفت دليلًا، ولشفت غليلًا، فإن في هذا الجسد من الحكم ما لا يسع ذكره في كتاب. . . ." (٢).

الشبهة الثانية فقد قال فيها ابن الجوزي: "لما رأى إبليس قلة موافقته على جحد الصانع لكون العقول شاهدة بأنه لابد للمصنوع من صانع حسّن لأقوام أن هذه المخلوقات فعل الطبيعة وقال ما من شيء يخلق إلا من اجتماع الطبائع الأربع فيه. فدلّ على أنها الفاعلة" (٣). ورد عليهم بقوله. "اجتماع الطبائع دليل على وجودها لا على فعلها، ثم قد ثبت أن الطبائع لا تفعل إلا باجتماعها وامتزاجها. وذلك يخالف طبيعتها، فدلّ على أنها مقهورة. وقد سلموا أنها ليست بحية ولا عالمة ولا قادرة ومعلوم أن الفعل المتسق المنتظم لا يكون إلا من عالم حكيم، فكيف يفعل من ليس عالمًا وليس قادرًا، فإن قالوا ولو كان الفاعل حكيمًا لم يقع في بنائه خلل. ولا وجدت هذه الحيوانات المضرة فعلم أنه الطبع. قلنا ينقلب هذا عليكم بما صدر منه من الأمور المنتظمة المحكمة التي لا يجوز أن يصدر مثلها عن طبع. فأما الخلل المشار إليه فيمكن أن يكون للابتلاء والردع والعقوبة، أو في طيه منافع لا نعلمها، ثم أين فعل الطبيعة من شمس تطلع في نيسان على أنواع من الحبوب فترطب الحصرم والخلالة، وتنشف البرة وتيبسها ولو فعلت طبعًا لأيبست الكل


(١) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص ٤١.
(٢) المرجع السابق، ص ٤١ - ٤٢.
(٣) المرجع السابق، ص ٤٣.

<<  <   >  >>