للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَجَدْبٍ وَهَزِيمَةٍ {فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: ٧٩] أَيْ مِنْ أَجْلِ عِصْيَانِهَا فَهِيَ مِنْ اللَّهِ لَكِنْ بِسَبَبِ ذَنْبِ النَّفْسِ عُقُوبَةً لَهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: ٣٠] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَرَأَ: وَمَا أَصَابَك مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك وَأَنَا كَتَبْتُهَا عَلَيْك. وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: ٨٠] فَأَضَافَ الْمَرَضَ لِنَفْسِهِ وَالشِّفَاءَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ - تَعَالَى - خَالِقًا لِلشِّفَاءِ وَالْمَرَضِ، وَإِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا رِعَايَةً لِلْأَدَبِ، لِأَنَّهُ - تَعَالَى - إنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ الشَّرِيفُ دُونَ الْخَسِيسِ، فَيُقَالُ: يَا خَالِقَ الْخَلْقِ وَلَا يُقَالُ: يَا خَالِقَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَيُقَالُ: يَا مُدَبِّرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا يُقَالُ: يَا مُدَبِّرَ الْقَمْلِ وَالْخَنَافِسِ فَكَذَا هُنَا.

وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَجَدْتَ نَظْمَ الْآيَةِ عَلَيْهِ عَلَى غَايَةٍ مِنْ السَّبْكِ وَالِالْتِئَامِ وَالرَّصَانَةِ وَالْبَلَاغَةِ اللَّائِقَةِ بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا عَلَى مَا زَعَمُوهُ فَيَخْتَلُّ النَّظْمُ وَيَتَغَيَّرُ الْأُسْلُوبُ لِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَا دَاعٍ إلَّا بِتَكْلِيفٍ تَامٍّ، وَجَلَالَةُ الْقُرْآنِ تَأْبَى ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْإِصَابَةِ الْمُوَافِقَ لِلِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ وَعَلَى التَّنَزُّلِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ مَا قَالُوهُ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِمْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ حَسَنَةٌ إذْ هِيَ الْغِبْطَةُ الْخَالِيَةُ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْقُبْحِ وَهُوَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةً، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: ٣٣] كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَبِهَا فُسِّرَ الْإِحْسَانُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: ٩٠] ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ حَسَنَةٌ فَكُلُّ حَسَنَةٍ مِنْ اللَّهِ بِنَصِّ الْآيَةِ حَتَّى عَلَى مَا زَعَمُوهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ. لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ {فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: ٧٩] أَنَّهُ قَدَّرَهُ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ لِمَعْرِفَةِ حُسْنِهِ وَقُبْحِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ. لِأَنَّا نَقُولُ جَمِيعُ الشَّرَائِطِ مُشْتَرَكَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عِنْدَكُمْ، فَالْعَبْدُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ أَوْجَدَهُ وَلَا مَدْخَلَ فِيهِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى زَعْمِكُمْ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ عِنْدَكُمْ عَنْ اللَّهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: ٧٩] فَبَانَ بُطْلَانُ مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ مِنْ الْآيَةِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَا أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ إذْ كُلُّ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مِنْ اللَّهِ قَالَ: الْكُفْرُ مِنْ اللَّهِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ اللَّهِ دُونَ الْآخَرِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>