للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَيْضًا: فَالْعَبْدُ لَوْ قَدَرَ عَلَى إيجَادِ الْكُفْرِ فَالْقُدْرَةُ الصَّالِحَةُ لِإِيجَادِ الْكُفْرِ إمَّا أَنْ تَصْلُحَ لِإِيجَادِ الْإِيمَانِ أَوْ لَا، فَإِنْ صَلُحَتْ لِإِيجَادِهِ عَادَ الْقَوْلُ بِأَنَّ إيمَانَ الْعَبْدِ مِنْهُ وَقَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ مِنْ الْآيَةِ كَمَا تَقَرَّرَ، وَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ لِإِيجَادِهِ لَزِمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الشَّيْءِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ضِدِّهِ وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكُفْرُ مِنْهُ.

وَأَيْضًا: إذَا لَمْ يُوجِدْ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُوجِدَ الْكُفْرَ لِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ بِإِيجَادِ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ مُرَادٍ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا عَاقِلٌ قَطُّ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ فِي قَلْبِهِ هُوَ الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ الْحَقِّ الْمُطَابِقِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَحَصَّلَ فِي قَلْبِهِ إلَّا الْحَقُّ، وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُهُ وَمَطْلُوبُهُ وَمُرَادُهُ لَمْ يَقَعْ بِإِيجَادِهِ فَبِأَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ - الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ وَمَا قَصَدَ تَحْصِيلَهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ النَّفْرَةِ عَنْهُ - غَيْرَ وَاقِعٍ بِإِيجَادِهِ أَوْلَى.

وَأَمَّا مَا شَنَّعَ بِهِ الْجُبَّائِيُّ عَلَى مَنْ قَرَأَ: أَفَمِنْ نَفْسِك؟ بِالِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ افْتِرَائِهِ كَشِيعَتِهِ. إذْ أَهْلُ السُّنَّةِ لَمْ يُعَوِّلُوا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَلَا جَعَلُوهَا حُجَّةً لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ صَحَّ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجَبَ قَبُولُهَا وَتَكُونُ حِينَئِذٍ دَلِيلًا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ إذَا صَحَّ سَنَدُهَا كَالْخَبَرِ الصَّحِيحِ فِي الْحُجِّيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ الْحُجِّيَّةُ مُفْتَقِرَةً إلَيْهَا، عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ كَهُوَ فِي تِلْكَ الْقِرَاءَةِ إنْ صَحَّتْ، نَظِيرُ مَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٍ عَنْ خَلِيلِهِ: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: ٧٧] مِنْ أَنَّ هَذَا إنَّمَا ذَكَرَهُ اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَكَذَا هُنَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَتَوَقَّفْ الْحُجِّيَّةُ عَلَيْهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى وَفْقِ قَصْدِهِ قَدْ بَانَ بِقَوْلِهِ: {فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: ٧٩] أَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا مِنْهُ بَلْ مِنْ اللَّهِ، فَهَذَا الْكُفْرُ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَمْ يُرِدْهُ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ أَلْبَتَّةَ كَيْفَ يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ وَاقِعٌ مِنْهُ بَلْ هُوَ مِنْ اللَّهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ وَقَصْدٌ، وَإِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ لَا يَقَعُ مِنْهَا بَلْ مِنْ اللَّهِ، فَأَوْلَى مَا لَيْسَ لَهَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَاقِعَ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْهَا. وَفِي خَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: ٧٩] إيمَاءٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا إسْنَادُ جَمِيعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>