وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِلَفْظِ: «مَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا حَتَّى الشَّوْكَةُ إلَّا لِإِحْدَى خَصْلَتَيْنِ، إمَّا لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الذُّنُوبِ ذَنْبًا لَمْ يَكُنْ لِيُغْفَرَ لَهُ إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ يَبْلُغَ بِهِ مِنْ الْكَرَامَةِ كَرَامَةً لَمْ يَكُنْ يَبْلُغُهَا إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ» .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ: «أَنَّ بِنْتًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَتْ إلَيْهِ تُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَهَا فِي الْمَوْتِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّسُولِ ارْجِعْ إلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» .
قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مُهِمَّاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَالْأَدَبِ وَالصَّبْرِ عَلَى النَّوَازِلِ كُلِّهَا وَالْهُمُومِ وَالْأَسْقَامِ وَسَائِرِ الْأَعْرَاضِ، وَمَعْنَى (أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ) أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ مُلْكُهُ فَلَمْ يَأْخُذْ إلَّا مَا هُوَ لَهُ عِنْدَكُمْ فِي مَعْنَى الْعَارِيَّةِ (وَلَهُ مَا أَعْطَى) أَيْ مَا وَهَبَهُ لَكُمْ إذْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مُلْكِهِ فَيَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى) أَيْ فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ. فَمَنْ عَلِمَ هَذَا أَدَّاهُ إلَى أَنْ يَصْبِرَ وَيَحْتَسِبَ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ مَوْتُ ابْنِهِ «أَيُّمَا كَانَ أَحَبَّ إلَيْك أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَك أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَك إلَيْهِ فَيَفْتَحُهُ لَك؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَحَبُّ إلَيَّ، قَالَ هُوَ لَك، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» .
وَفِي خَبَرِ مُسْلِمٍ: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُؤْمِنُ إلَّا كُفِّرَ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ» .
وَكَأَنَّ الْقَاضِيَ حُسَيْنًا - مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّتِنَا - أَخَذَ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ الَّذِي أَقَرُّوهُ عَلَيْهِ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ حُزْنُهُ عَلَى فِرَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى فِرَاقِ أَبَوَيْهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ.
وَفِي حَدِيثٍ «إنَّ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَاسْتَرْجَعَ عِنْدَ مَوْتِ وَلَدِهِ أَمَرَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ أَنْ يَبْنُوا لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَيُسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ» .
وَفِي أُخْرَى عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: «مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ جَزَاءٌ إذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةُ» . وَفِي أُخْرَى: «إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» أَيْ إنَّمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute