هُنَا، وَقِيلَ الْأَوَّلُ أَنْ تَفْحَصَ عَنْ الْغَيْرِ بِغَيْرِك. وَالثَّانِي أَنْ تَفْحَصَ عَنْهُ بِنَفْسِك؛ وَعَلَى كُلٍّ فَفِي الْآيَةِ النَّهْيُ الْأَكِيدُ عَنْ الْبَحْثِ عَنْ أُمُورِ النَّاسِ الْمَسْتُورَةِ وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضْ الْإِيمَانُ إلَى قَلْبِهِ: لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» . وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَلْ لَك فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَلِحْيَتُهُ تَقْطُرُ خَمْرًا؟ فَقَالَ: إنَّمَا نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ فَإِنْ يُظْهِرْ لَنَا شَيْئًا أَخَذْنَاهُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: ١٢] أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي حَقِّ أَحَدٍ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ، وَأَلْحَقَ بِهِ مَا عَلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي التَّكَلُّمِ فِي حَضْرَتِهِ بِذَلِكَ بَلْ هُوَ أَبْلَغُ فِي الْأَذِيَّةِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -
وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا مَعَ أَنَّهَا صِدْقٌ الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ عِرْضِ الْمُؤْمِنِ، وَالْإِشَارَةُ إلَى عَظِيمِ تَأَكُّدِ حُرْمَتِهِ وَحُقُوقِهِ، وَزَادَ تَعَالَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَحْقِيقًا بِتَشْبِيهِ عِرْضِهِ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بِالتَّعْبِيرِ فِيهِ بِالْأَخِ، فَقَالَ - عَزَّ قَائِلًا -: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: ١٢] وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ مِنْ قَرْضِ عِرْضِهِ، كَمَا يَتَأَلَّمُ بَدَنُهُ مِنْ قَطْعِ لَحْمِهِ لِأَكْلِهِ بَلْ أَبْلُغُ؛ لِأَنَّ عِرْضَ الْعَاقِلِ عِنْدَهُ أَشْرَفُ مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ.
وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنْ الْعَاقِلِ أَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ قَرْضُ عِرْضِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ آلَمْ، وَوَجْهُ الْآكَدِيَّةِ فِي لَحْمِ أَخِيهِ أَنَّ الْأَخَ لَا يُمْكِنُهُ مَضْغُ لَحْمِ أَخِيهِ فَضْلًا عَنْ أَكْلِهِ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ لَحْمَ عَدُوِّهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، وَانْدَفَعَ بِمَيِّتًا الْحَالُ مِنْ لَحْمٍ أَوْ أَخِيهِ مَا قَدْ يُقَالُ إنَّمَا تَحْرُمُ الْغِيبَةُ فِي الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُؤْلِمُ حِينَئِذٍ بِخِلَافِهَا فِي الْغِيبَةِ فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِلْمُغْتَابِ عَلَيْهَا، وَوَجْهُ انْدِفَاعِ هَذَا أَنَّ أَكْلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute