للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَحْمِ الْأَخِ، وَهُوَ مَيِّتٌ لَا يُؤْلِمُ أَيْضًا، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ الِاطِّلَاعُ لَتَأَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَوْ أَحَسَّ بِأَكْلِ لَحْمِهِ لَآلَمَهُ فَكَذَا الْغِيبَةُ تَحْرُمُ فِي الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُغْتَابَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَتَأَلَّمَ وَأَيْضًا فَفِي الْعِرْضِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ لِلَّهِ تَعَالَى.

فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْغِيبَةَ وَقَعَتْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمُغْتَابُ الْعِلْمَ بِهَا حَرُمَتْ أَيْضًا رِعَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفَطْمًا لِلنَّاسِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَالْخَوْضِ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ اللَّهُمَّ إلَّا لِلْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فَتُبَاحُ حِينَئِذٍ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا أَشَارَتْ الْآيَةُ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِذِكْرِ " مَيْتًا "، إذْ لَحْمُ الْمَيِّتِ إنَّمَا يَحِلُّ لِلضَّرُورَةِ إلْحَاقُهُ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً أُخْرَى مَعَ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ لَمْ تَحِلَّ لَهُ مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَيْتَةَ الْآدَمِيِّ.

وقَوْله تَعَالَى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: ١٢] تَقْدِيرُهُ فَقَدْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ الْأَكْلَ أَوْ اللَّحْمَ فَلَا تَفْعَلُوا مَا هُوَ شَبِيهٌ بِهِ، وَإِلَى هَذَا يُؤَوَّلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: ١٢] قَالُوا لَا، قِيلَ: {فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: ١٢] أَيْ فَكَمَا كَرِهْتُمْ هَذَا فَاجْتَنِبُوا ذِكْرَهُ بِالسُّوءِ.

لَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَكْلَ ذَلِكَ إذَا هَمَزَهُ أَيُحِبُّ لِلْإِنْكَارِ فَكَرِهْتُمُوهُ إذًا فَاكْرَهُوا هَذَا كَذَلِكَ، وَقِيلَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فَكَرِهْتُمُوهُ مَحْذُوفٌ أَيْ عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرِهْتُمُوهُ أَيْ يُعْرَضُ عَلَيْكُمْ فَتَكْرَهُونَهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ فَكَرِهْتُمُوهُ لِلْمَيِّتِ وَكَأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ، فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ زِيَادَةَ مُبَالَغَةٍ فِي التَّحْذِيرِ أَيْ: أَنَّ الْمَيْتَةَ، وَإِنْ أُكِلَتْ فِي النُّدْرَةِ لَكِنَّهَا إذَا أَنْتَنَتْ كَرِهَهَا كُلُّ أَحَدٍ وَيَفِرُّ مِنْهَا بِحَيْثُ يَبْعُدُ عَنْ مَحَلِّهَا، وَلَا يَسْتَطِيعُ دُخُولُهُ فَكَيْفَ يَقْرَبُهُ بِحَيْثُ يَأْكُلُهُ. فَكَذَا حَالُ الْغِيبَةِ يَنْبَغِي الْمُبَاعَدَةُ عَنْهَا كَنَهْيٍ عَنْ الْمَيْتَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ؛ فَتَأَمَّلْ مَا أَفَادَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَاَلَّتِي قَبْلَهَا وَأَمْعِنْ فِكْرَك فِيهِ تَغْنَمْ وَتَسْلَمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِحَقَائِقِ تَنْزِيلِهِ أَعْلَمُ؛ وَتَأَمَّلْ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ كُلًّا مِنْ الْآيَتَيْنِ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَيْهِمْ، لَكِنْ لَمَّا بُدِئَتْ الْأُولَى بِالنَّهْيِ خُتِمَتْ بِالنَّفْيِ {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} [الحجرات: ١١] لِتَقَارُبِهِمَا، وَلَمَّا بُدِئَتْ الثَّانِيَةُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْأَمْرِ فِي اجْتَنِبُوا خُتِمَتْ بِهِ فِي إنَّ اللَّهَ إلَخْ وَكَأَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ التَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ فِي الْأُولَى فَقَطْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: ١١] أَنَّ مَا فِيهَا أَفْحَشُ؛ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ فِي الْحَضْرَةِ بِالسُّخْرِيَةِ أَوْ اللَّمْزِ أَوْ النَّبْزِ بِخِلَافِهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ إذْ كُلٌّ مِنْ الظَّنِّ وَالتَّجَسُّسِ وَالْغِيبَةِ يَقْتَضِي الْإِخْفَاءَ وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِهِ غَالِبًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>