لَتَوَقَّفَ أَدَاءُ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
وَبِمَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ يُرَدُّ عَلَى مَنْ قَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ النِّصَابُ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ حُدُّوا لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَأْمَنُ أَنْ لَا يُوَافِقَهُ صَاحِبُهُ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَيُرَدُّ مَا عَلَّلَ بِهِ بِأَنَّ الْقَصْدَ سَتْرُ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ مَا أَمْكَنَ، وَلِذَا تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ بِاشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ بِهَا.
وقَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: ٤] الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَكَذَا السَّيِّدُ فِي قِنِّهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ إذَا فُقِدَ الْإِمَامُ وَمَذْهَبُنَا لَا يُوَافِقُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: ٤] مَحَلُّهُ فِي كَامِلِ الْحُرِّيَّةِ فَغَيْرُهُ يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ وَفِي غَيْرِ الْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا فَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِ فَرْعِهِ كَمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ بَلْ يُعَزَّرُ، وَكَذَا السَّيِّدُ مَعَ قِنِّهِ.
وَأَشَدُّ الْحُدُودِ حَدُّ الزِّنَا، ثُمَّ الْقَذْفِ، ثُمَّ الْخَمْرِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا حَدَّ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حُدُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا حَدَّ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ قَوَدٌ لَا حَدٌّ، وَإِنْ وَجَبَ فِيهِ التَّحَتُّمُ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى -.
وَوَجْهُ أَشَدِّيَّةِ الزِّنَا أَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَنْسَابِ الَّتِي هِيَ شَقَائِقُ النُّفُوسِ، ثُمَّ الْقَذْفِ أَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ الْعَظِيمَةِ الرِّعَايَةِ عِنْدَ ذَوِي الْمُرُوآتِ مَعَ تَمَحُّضِهَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] فِيهِ أَشَدُّ الْعُقُوبَةِ وَأَبْلَغُ الزَّجْرِ وَأَكْبَرُ الْمَقْتِ لِلْقَاذِفِينَ.
وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: ٥] إلَخْ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَآخَرُونَ: إنَّهُ خَاصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ، فَالْقَاذِفُ فَاسِقٌ إلَّا إنْ تَابَ؛ وَأَمَّا رَدُّ شَهَادَتِهِ فَهُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى حَدِّهِ فَإِنْ حُدَّ فِي الْقَذْفِ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ بَعْدُ شَهَادَةٌ أَبَدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ لِلْجَمِيعِ، فَمَتَى تَابَ الْقَاذِفُ تَوْبَةً صَحِيحَةً زَالَ فِسْقُهُ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. فَمَعْنَى أَبَدًا: أَيْ مَا دَامَ قَاذِفًا: أَيْ مُصِرًّا عَلَى قَذْفِهِ، وَبِالتَّوْبَةِ زَالَ أَثَرُ الْقَذْفِ فَزَالَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ. وَقَوْلُ أَبِي حَيَّانَ: لَيْسَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمَلِ الثَّلَاثَةِ بَلْ الظَّاهِرُ هُوَ مَا يَعْضُدُهُ كَلَامُ الْعَرَبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَخِيرَةِ مَمْنُوعٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute