للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مَنْ يَضْرِبُ أَبَاهُ يُقْتَلُ. وَقَالَ وَهْبٌ: فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ صَكَّ وَالِدَيْهِ الرَّجْمُ. وَقَالَ بِشْرٌ: أَيُّمَا رَجُلٍ يَقْرَبُ مِنْ أُمِّهِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالنَّظَرُ إلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. «وَجَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتَصِمَانِ فِي صَبِيٍّ لَهُمَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَلَدِي خَرَجَ مِنْ صُلْبِي، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَمَلَهُ خَفًّا وَوَضَعَهُ شَهْوَةً وَحَمَلْته كَرْهًا وَوَضَعْته كَرْهًا وَأَرْضَعْته حَوْلَيْنِ فَقَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأُمِّ» ؛ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ إغْرَاءً عَلَى الْبِرِّ وَتَحْذِيرًا عَنْ الْعُقُوقِ وَوَبَالِهِ وَإِعْلَامًا بِمَا يُدْحِضُ الْعَاقَّ إلَى حَضِيضِ سَفَالِهِ وَيَحُطُّهُ عَنْ كَمَالِهِ: أَيُّهَا الْمُضَيِّعُ لِأَوْكَدِ الْحُقُوقِ الْمُعْتَاضُ عَنْ الْبِرِّ بِالْعُقُوقِ النَّاسِي لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْغَافِلُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، بِرُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَيْك دَيْنٌ وَأَنْتَ تَتَعَاطَاهُ بِاتِّبَاعِ الشَّيْنِ، تَطْلُبُ الْجَنَّةَ بِزَعْمِك وَهِيَ تَحْتَ أَقْدَامِ أُمِّك، حَمَلَتْك فِي بَطْنِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَأَنَّهَا تِسْعُ حِجَجٍ وَكَابَدَتْ عِنْدَ وَضْعِك مَا يُذِيبُ الْمُهَجَ، وَأَرْضَعَتْك مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا وَأَطَارَتْ لِأَجْلِك وَسَنًا، وَغَسَلَتْ بِيَمِينِهَا عَنْك الْأَذَى وَآثَرَتْك عَلَى نَفْسِهَا بِالْغِذَاءِ، وَصَيَّرَتْ حِجْرَهَا لَك مَهْدًا وَأَنَالَتْك إحْسَانًا وَرَفْدًا، فَإِنْ أَصَابَك مَرَضٌ أَوْ شِكَايَةٌ أَظْهَرَتْ مِنْ الْأَسَفِ فَوْقَ النِّهَايَةِ، وَأَطَالَتْ الْحُزْنَ وَالنَّحِيبَ وَبَذَلَتْ مَالَهَا لِلطَّبِيبِ، وَلَوْ خُيِّرَتْ بَيْنَ حَيَاتِك وَمَوْتِهَا لَآثَرَتْ حَيَاتَك بِأَعْلَى صَوْتِهَا، هَذَا وَكَمْ عَامَلْتهَا بِسُوءِ الْخُلُقِ مِرَارًا فَدَعَتْ لَك بِالتَّوْفِيقِ سِرًّا وَجِهَارًا، فَلَمَّا احْتَاجَتْ عِنْدَ الْكِبَرِ إلَيْك جَعَلْتهَا مِنْ أَهْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْك، فَشَبِعْت وَهِيَ جَائِعَةٌ وَرُوِيت وَهِيَ ضَائِعَةٌ، وَقَدَّمْت عَلَيْهَا أَهْلَك وَأَوْلَادَك فِي الْإِحْسَانِ وَقَابَلْت أَيَادِيهَا بِالنِّسْيَانِ، وَصَعُبَ لَدَيْك أَمْرُهَا وَهُوَ يَسِيرٌ وَطَالَ عَلَيْك عُمُرُهَا وَهُوَ قَصِيرٌ، وَهَجَرْتهَا وَمَا لَهَا سِوَاك نَصِيرٌ.

هَذَا، وَمَوْلَاك قَدْ نَهَاك عَنْ التَّأْفِيفِ وَعَاتَبَك فِي حَقِّهَا بِعِتَابٍ لَطِيفٍ، سَتُعَاقَبُ فِي دُنْيَاك بِعُقُوقِ الْبَنِينَ وَفِي أُخْرَاك بِالْبُعْدِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُنَادِيك بِلِسَانِ التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: ١٨٢] .

لِأُمِّك حَقٌّ لَوْ عَلِمْت كَبِيرُ ... كَثِيرُك يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيرُ

فَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثِقَلِك تَشْتَكِي ... لَهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّةٌ وَزَفِيرُ

وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ ... فَمِنْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ

وَكَمْ غَسَلَتْ عَنْك الْأَذَى بِيَمِينِهَا ... وَمَا حِجْرُهَا إلَّا لَدَيْك سَرِيرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>