وَتَفْدِيك مِمَّا تَشْتَكِيهِ بِنَفْسِهَا ... وَمِنْ ثَدْيِهَا شُرْبٌ لَدَيْك نَمِيرُ
وَكَمْ مَرَّةٍ جَاعَتْ وَأَعْطَتْك قُوتَهَا ... حُنُوًّا وَإِشْفَاقًا وَأَنْتَ صَغِيرُ
فَآهًا لِذِي عَقْلٍ وَيَتْبَعُ الْهَوَى ... وَآهًا لِأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ
فَدُونَك فَارْغَبْ فِي عَمِيمِ دُعَائِهَا ... فَأَنْتَ لِمَا تَدْعُو إلَيْهِ فَقِيرُ
تَنْبِيهٌ: عَدُّ الْعُقُوقِ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ لَا يُقَالُ يُشْكِلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْحَسَنُ الْآتِي فِي مَبْحَثِ الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ إذْ فِيهِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ فَقَالَ تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ» الْحَدِيثَ. لِأَنَّا نَقُولُ التَّقْيِيدُ بِالْمُسْلِمَيْنِ إمَّا بِأَنَّ عُقُوقَهُمَا أَقْبَحُ وَالْكَلَامُ هُنَا فِي ذِكْرِ الْأَعْظَمِ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ فِي عَطْفِ وَقَتْلِ الْمُؤْمِنِ وَمَا بَعْدَهُ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُمَا ذُكِرَا لِلْغَالِبِ كَمَا فِي نَظَائِرَ أُخَرَ. وَلِلْحَلِيمِيِّ هُنَا تَفْصِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيٍ لَهُ ضَعِيفٍ مَرَّ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْعُقُوقَ كَبِيرَةٌ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ نَحْوُ سَبٍّ فَفَاحِشَةٌ، وَإِنْ كَانَ عُقُوقُهُ هُوَ اسْتِثْقَالُهُ لِأَمْرِهِمَا وَنَهْيِهِمَا وَالْعُبُوسُ فِي وُجُوهِهِمَا وَالتَّبَرُّمُ بِهِمَا مَعَ بَذْلِ الطَّاعَةِ وَلُزُومِ الصَّمْتِ فَصَغِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِيهِ مِنْ ذَلِكَ يُلْجِئُهُمَا إلَى أَنْ يَنْقَبِضَا فَيَتْرُكَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَيَلْحَقُهُمَا مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ فَكَبِيرَةٌ. انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَالْوَجْهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ ضَابِطِ الْعُقُوقِ الَّذِي هُوَ كَبِيرَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا إيذَاءٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ أَيْ عُرْفًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمُتَأَذِّي، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ فِي غَايَةِ الْحُمْقِ أَوْ سَفَاهَةِ الْعَقْلِ فَأَمَرَ أَوْ نَهَى وَلَدَهُ بِمَا لَا يُعَدُّ مُخَالَفَتُهُ فِيهِ فِي الْعُرْفِ عُقُوقًا لَا يَفْسُقُ وَلَدُهُ بِمُخَالَفَتِهِ حِينَئِذٍ لِعُذْرِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِمَنْ يُحِبُّهَا فَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا وَلَوْ لِعَدَمِ عِفَّتِهَا فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَكِنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ طَلَاقُهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ وَالِدِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ: «أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ ابْنَهُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَأَبَى فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا» .
وَكَذَا سَائِرُ أَوَامِرِهِ الَّتِي لَا حَامِلَ عَلَيْهَا إلَّا ضَعْفَ عَقْلِهِ وَسَفَاهَةَ رَأْيِهِ، وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى أَرْبَابِ الْعُقُولِ لَعَدُّوهَا أُمُورًا مُتَسَاهَلًا فِيهَا، وَلَرَأَوْا أَنَّهُ لَا إيذَاءَ لِمُخَالَفَتِهَا، هَذَا هُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ إلَيْهِ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ الْحَدِّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute