وَلَك أَنْ تَقُولَ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ نَظَرٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْإِسَاءَةِ مَا يَشْمَلُ فِعْلَ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ أَوْ مَا يَخْتَصُّ بِالْمُحَرَّمِ وَلَوْ صَغِيرَةً نَافَى مَا مَرَّ عَنْ الْبُلْقِينِيِّ وَغَيْرِهِ فِي ضَابِطِ الْعُقُوقِ مِنْ أَنَّهُ إنْ يَفْعَلْ مَعَ أَحَدِ وَالِدَيْهِ مَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ كَانَ مُحَرَّمًا صَغِيرَةً فَيَنْتَقِلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا كَبِيرَةً، فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ ضَابِطَ الْعُقُوقِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ آكَدُ مِنْ حَقِّ بَقِيَّةِ الْأَقَارِبِ، وَأَنَّ الْعُقُوقَ غَيْرُ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ، وَمِنْهُ تَوَقُّفُ الرَّافِعِيِّ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَطْعِ الرَّحِمِ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ مَا هُوَ أَشَدُّ فِي الْإِيذَاءِ مِنْ الْعُقُوقِ؛ لِيَظْهَرَ مَزِيَّةُ الْوَالِدَيْنِ، وَمَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ يَلْزَمُ عَلَيْهِ اتِّحَادُهُمَا بَلْ إنَّ الْقَطِيعَةَ يُرَاعَى فِيهَا مَا هُوَ أَدْنَى فِي الْإِيذَاءِ مِنْ الْعُقُوقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِسَاءَةَ فِي كَلَامِهِ تَشْمَلُ فِعْلَهُ فَيَتَمَيَّزُ بَقِيَّةُ الْأَقَارِبِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ حَيْثُ جُعِلَ مُطْلَقُ الْإِيذَاءِ فِي حَقِّهِمْ كَبِيرَةً. وَالْأَبَوَانِ لَمْ يُجْعَلْ الْإِيذَاءُ فِي حَقِّهِمْ كَذَلِكَ وَهَذَا مُنَافٍ لِصَرِيحِ كَلَامِهِمْ، فَوَجَبَ رَدُّ كَلَامِ أَبِي زُرْعَةَ لِئَلَّا يَلْزَمَ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ.
وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ كَلَامَهُمْ فِي الْعُقُوقِ يَرُدُّ مَا ذَكَرَهُ فَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَنَّ قَطْعَ الرَّحِمِ عَدَمُ فِعْلِ الْإِحْسَانِ كَلَامُهُمْ يَرُدُّهُ بِالْأُولَى، وَحِينَئِذٍ فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ لِيُوَافِقَ كَلَامَهُمْ وَفَرْقَهُمْ بَيْنَ الْعُقُوقِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ مَا قَدَّمْته فِيهِ دُونَ مَا مَرَّ عَنْ الْبُلْقِينِيِّ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ اتِّحَادِهِمَا، وَبِالثَّانِي قَطْعُ مَا أَلِفَ الْقَرِيبُ مِنْهُ مِنْ سَابِقِ الْوُصْلَةِ وَالْإِحْسَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ قَطْعَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إيحَاشِ الْقُلُوبِ وَنُفْرَتِهَا وَتَأَذِّيهَا، وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَطَعَ وُصْلَةَ رَحِمِهِ وَمَا يَنْبَغِي لَهَا مِنْ عَظِيمِ الرِّعَايَةِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ قَرِيبَهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِنْهُ إحْسَانٌ وَلَا إسَاءَةٌ قَطُّ لَمْ يَفْسُقْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ إذَا فُرِضَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُمَا مَا يَقْتَضِي التَّأَذِّي الْعَظِيمَ لِغِنَاهُمَا مَثَلًا لَمْ يَكُنْ كَبِيرَةً فَأَوْلَى بَقِيَّةُ الْأَقَارِبِ.
وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يَقْطَعْ عَنْ قَرِيبِهِ مَا أَلِفَهُ مِنْ الْإِحْسَانِ لَكِنَّهُ فَعَلَ مَعَهُ مُحَرَّمًا صَغِيرَةً أَوْ قَطَّبَ فِي وَجْهِهِ أَوْ لَمْ يَقُمْ إلَيْهِ فِي مَلَأٍ وَلَا عَبَأَ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِسْقًا، بِخِلَافِهِ مَعَ أَحَدِ الْوَالِدَيْنِ؛ لِأَنَّ تَأَكُّدَ حَقِّهِمَا اقْتَضَى أَنْ يَتَمَيَّزَا عَلَى بَقِيَّةِ الْأَقَارِبِ بِمَا لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِيهِمْ، وَعَلَى ضَبْطِ الثَّانِي بِمَا ذَكَرْته فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْسَانُ الَّذِي أَلِفَهُ مِنْهُ قَرِيبُهُ مَالًا أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُرَاسَلَةً أَوْ زِيَارَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَطْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ فِعْلِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَبِيرَةٌ. فَإِنْ قُلْت: فَمَا الْمُرَادُ بِالْعُذْرِ فِي الْمَالِ وَفِي نَحْوِ الزِّيَارَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute