للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كُلَّهَا مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ وَمُعَاذًا قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْخَمْرَ مُسْلِبَةٌ لِلْعَقْلِ مُذْهِبَةٌ لِلْمَالِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَنْبِذَةِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِآيَةِ: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ} [النحل: ٦٧] مَرْدُودٌ بِأَنَّ هَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ.

فَإِنْ قُلْت: إنَّ ذَلِكَ السُّكْرَ هُوَ هَذَا النَّبِيذُ عَلَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ سَابِقَةُ النُّزُولِ عَلَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَهِيَ نَاسِخَةٌ أَوْ مُخَصِّصَةٌ لِهَذِهِ، «وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى السِّقَايَةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَاسْتَنَدَ إلَيْهَا وَقَالَ: اسْقُونِي، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: نُسْقِيك مِمَّا نَنْبِذُهُ فِي بُيُوتِنَا؟ فَقَالَ مِمَّا يُسْقَى النَّاسُ فَجَاءَهُ بِقَدَحٍ مِنْ نَبِيذٍ، فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ وَجْهَهُ وَرَدَّهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْسَدْت عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ شَرَابَهُمْ، فَقَالَ رُدُّوا عَلَيَّ الْقَدَحَ فَرَدَّهُ فَدَعَا بِمَاءٍ مِنْ زَمْزَمَ فَصَبَّ فِيهِ وَشَرِبَ: فَقَالَ إذَا اغْتَلَمَتْ أَيْ اشْتَدَّتْ عَلَيْكُمْ الْأَشْرِبَةُ فَاقْطَعُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ» . مَرْدُودٌ أَيْضًا بَعْدَ تَسْلِيمِ فَرْضِ صِحَّتِهِ بِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةُ حَالٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِمَّا نُبِذَتْ فِيهِ تَمَرَاتٌ لِتَجْذِبَ مُلُوحَتَهُ فَتَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ قَلِيلًا إلَى الْحُمُوضَةِ وَطَبْعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ فَلَمْ يَحْتَمِلْهُ فَقَطَّبَ وَجْهَهُ وَإِنَّمَا صَبَّ الْمَاءَ فِيهِ إزَالَةً لِتِلْكَ الْحُمُوضَةِ أَوْ الرَّائِحَةِ، وَبِأَنَّ فِيهِ آثَارًا عَنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ تَقْتَضِي الْحِلَّ، كَكَتْبِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: إنَّ أَرْزَاقَ الْمُسْلِمِينَ الطِّلَاءُ وَهُوَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ، وَشُرْبُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٍ لَهُ مَرْدُودٌ أَيْضًا بَعْدَ فَرْضِ صِحَّتِهَا بِأَنَّهُ قَدْ عَارَضَهَا آثَارٌ أُخَرُ، فَتَدَافَعَتْ وَتَسَاقَطَتْ وَبَقِيَتْ الْحُجَّةُ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ قَلِيلِهِ وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ وَكَثِيرِهِ.

وَمَرَّ أَنَّ أَخْبَارَ حُرْمَةِ ذَلِكَ صَرَائِحُ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَلِضَعْفِ شُبَهِ الْحِلِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحُدُّ مُعْتَقِدَهُ وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَإِنَّمَا حَدَّهُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ ضَعْفِ شُبْهَتِهِ، وَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ الْمَرْفُوعِ إلَيْهِ لَا الْخَصْمِ وَإِنَّمَا قَبِلَ شَهَادَتَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ مُفَسِّقًا فِي اعْتِقَادِهِ، ثُمَّ مَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي شُرْبِ شَيْءٍ لَا يُسْكِرُ هُوَ أَصْلًا، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَأَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْخَمْرِ تَثْبُتُ لَهُ، وَأَطَالُوا فِي رَدِّ خِلَافِ ذَلِكَ وَتَزْيِيفِهِ.

أَمَّا شُرْبُ مَا يُسْكِرُ بِالْفِعْلِ فَهُوَ حَرَامٌ وَفِسْقٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا قَلِيلُ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَا مِنْ غَيْرِ عَمَلِ النَّارِ فِيهِ فَهُوَ حَرَامٌ وَنَجِسٌ إجْمَاعًا يُحَدُّ شَارِبُهُ وَيُفَسَّقُ بَلْ وَيُكَفَّرُ إنْ اسْتَحَلَّهُ، قَالُوا وَنَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ بِمَكَّةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>