للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُجِيبَ: بِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ وَاقِعًا عَنْ مُطْلَقِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ فِيهِ إثْمًا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ لَازِمٌ لَهُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ فَكَانَ شُرْبُ الْخَمْرِ مُسْتَلْزِمًا لِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشُّرْبُ مُحَرَّمًا.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ فِيهَا مَنَافِعَ وَالْمُحَرَّمُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْنَعُوا بِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُرْمَةِ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ وَآيَةُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ أَنَّ مِنْ أَوْصَافِهَا أَنَّ فِيهَا إثْمًا كَبِيرًا، فَلَوْ دَلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ لَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ قَطُّ فِي شَرْعِنَا وَلَا فِي غَيْرِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ.

وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ حُصُولَ النَّفْعِ فِيهَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ حُرْمَتِهَا لِأَنَّ صِدْقَ الْخَاصِّ يُوجِبُ صِدْقَ الْعَامِّ أَيْ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَنْ يَجْعَلَ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ» لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَعَمُّ مِنْ الشِّفَاءِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ مُطْلَقِ الْمَنَافِعِ. وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّهُ جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهَا نَزَلَتْ وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَالتَّوَقُّفُ الَّذِي ذَكَرُوهُ غَيْرُ مَرْوِيٍّ عَنْهُمْ إنَّمَا كَانَ مِنْ بَعْضِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ مَا هُوَ آكَدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّحْرِيمِ كَمَا الْتَمَسَ إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشَاهَدَةَ إحْيَاءِ الْمَوْتَى؛ لِيَزْدَادَ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً.

وَعَنْ الثَّالِثِ: بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: ٢١٩] إخْبَارٌ عَنْ الْحَالِ لَا عَنْ الْمَاضِي، فَعَلَّمَ تَعَالَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ مَفْسَدَةٌ لَهُمْ دُونَ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَمِنْ إثْمِ الْخَمْرِ الْكَبِيرِ إزَالَةُ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ، وَإِذَا كَانَتْ الْخَمْرُ عَدُوَّةً لِلْأَشْرَفِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ أَخَسُّ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا سُمِّيَ عَقْلًا لِأَنَّهُ يَعْقِلُ أَيْ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنْ الْقَبَائِحِ الَّتِي يَمِيلُ إلَيْهَا بِطَبْعِهِ، فَإِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ زَالَ ذَلِكَ الْعَقْلُ الْمَانِعُ عَنْ الْقَبَائِحِ وَتَمَكَّنَ إلْفُهَا وَهُوَ الطَّبْعُ مِنْهَا فَارْتَكَبَهَا وَأَكْثَرَ مِنْهَا حَتَّى يَرْتَدَّ إلَيْهِ عَقْلُهُ.

ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: أَنَّهُ مَرَّ بِسَكْرَانَ وَهُوَ يَبُولُ فِي يَدِهِ وَيَغْسِلُ بِهِ يَدَهُ كَهَيْئَةِ الْمُتَوَضِّئِ وَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْإِسْلَامَ نُورًا وَالْمَاءَ طَهُورًا. وَعَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِمَ لَا تَشْرَبُ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي حَرَارَتِك؟ فَقَالَ مَا أَنَا بِآخِذٍ جَهْلِي بِيَدِي فَأُدْخِلُهُ فِي جَوْفِي وَلَا أَرْضَى أَنْ أُصْبِحُ سَيِّدَ قَوْمِي وَأُمْسِي سَفِيهَهُمْ. وَمِنْهُ صَدُّهَا عَنْ ذَكَرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَإِيقَاعُهَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>